وظيفة اللاهوت الأرثوذكسيّ في أوروبّا اليوم – يوحنّا زيزيولاس
تعريب: أسعد قطّان
(أُلقيت هذه المحاضرة في ميونيخ في الرابع من تشرين الثاني 2015، وذلك لمناسبة حصول صاحبها على دكتوراه فخريّة من جامعة ميونيخ).
أودّ استهلال هذه المحاضرة بالتعبير عن امتناني العميق للشرف العظيم الذي تغدقه عليّ اليوم هذه الجامعة الذائعة الصيت. والحقّ أنّه لامتياز كبير أن أحظى بلقب الدكتوراه الفخريّة – وهذا وسام أكاديميّ أكنّ له عميق الاحترام والتقدير – على يد قسم اللاهوت الأرثوذكسيّ التابع لهذه الجامعة العريقة. وإنّي أتوجّه ببالغ الشكر إلى رئيس قسم اللاهوت الأرثوذكسيّ، البروفسّور د. أثاناسيوس فليتسيس، وزملائه والمسؤولين في هذه الجامعة، وذلك بسبب قرارهم تشريفي بهذا اللقب. وإنّي أشكر، بشكل خاصّ، نيافة الكاردينال كورت كوخ لقبوله أن يقدّم إلى جمهور هذه القاعة الكريم شخصي الحقير ومساهمتي اللاهوتيّة المتواضعة. كذلك أرفع شكري إلى سيادة المتروبوليت أوغسطينوس من الكنيسة الأرثوذكسيّة في ألمانيا لكلماته الطيّبة، ولحضور إكليروسه هنا في هذه المناسبة الجليلة. كما أودّ أن أقول امتناني لكلّ مَن يشرّفني اليوم بحضوره.
يحتفل قسم اللاهوت الأرثوذكسيّ في هذه الجامعة اليوم بيوبيله العشرين، وبمرور ثلاثين سنة على قيام المؤسّسة التي سبقته، أي معهد اللاهوت الأرثوذكسيّ، وكان البروفسّور د. ثيوذوروس نيكولاو أوّل من علّم فيها. هذه الأعوام الثلاثون من حضور اللاهوت الأرثوذكسيّ في واحدة من أبرز جامعات أوروبّا تشكّل حدثًا تاريخيًّا. فباسم الكنيسة الأرثوذكسيّة أرى أنّه من واجبي أن أرفع الشكر إلى جامعة ميونيخ لمنحها اللاهوت الأرثوذكسيّ هذا الامتياز، أي أن يكون جزءًا من البرنامج التعليميّ في هذه المؤسّسة الأكاديميّة الرفيعة، إلى جانب الكلّيّتين اللاهوتيّتين الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة. هذا الأمر لهو معجزة مسكونيّة لا يَسَعُنا إلاّ أن نقابلها بالشكر والامتنان.
يستدعي حضورُ اللاهوت الأرثوذكسيّ في جامعة أوروبّيّة السؤال الذي أودّ أن أخصّص له بعض التأمّلات الشخصيّة في هذه المناسبة المهمّة: ما هي وظيفة اللاهوت الأرثوذكسيّ في أوروبّا اليوم؟
دعوني أشير أوّلاً إلى ما يجب ألاّ تكونه هذه الوظيفة. غالبًا ما يعمد غير الأرثوذكس إلى مقاربة الأرثوذكسيّة بوصفها شكلاً دينيًّا «دخيلاً»، غريبًا عن الهويّة الأوروبّيّة، وأثرًا من آثار الماضي تجدر بنا المحافظة عليه واحترامه ودرسه، كما نفعل بالتقاليد الأخرى غير الأوروبّيّة. وإنّ كثرًا من الأرثوذكس ينظرون إلى أنفسهم بالطريقة ذاتها. والحقّ أنّ التعارض بين الشرق والغرب الذي قال به المفكّرون الروس الذين اعتنقوا مذهب محبّة السلافيّة (Slavophiles)، في القرن التاسع عشر، وجد طريقه اليوم إلى بلاد اليونان أيضًا، حتّى إنّه استُخدم مؤخّرًا لأغراض سياسيّة، ولتغذية مشاعر معادية للغرب في أوساط الأرثوذكس. ويصاحب هذا كلّه تصاعدٌ في النـزعات المحافظة ضدّ أيّ شكل من أشكال الحوار مع مسيحيّي الغرب والحركة المسكونيّة.
ولكنّ هذا لا يتطابق وطبيعةَ التقليد الأرثوذكسيّ. فالأرثوذكسيّة ليست غريبةً عن أوروبّا، بل تشكّل جزءًا لا يتجزّأ من هويّتها الروحيّة. فالأسس التي قامت عليها أوروبّا تضمّ أيضًا الشرق المسيحيّ على قدر ما تضمّ الغرب المسيحيّ. فالآباء الناطقون باليونانيّة شكّلوا، طوال قرون، جزءًا من أسس المسيحيّة الغربيّة إلى جانب أوغسطينوس وإيرونيموس وهيلاريون وأمبروسيوس وسائر الآباء اللاتين. طيلة ألف عام، كانت الكنيسة تتنفّس «برئتيها»، الغرب والشرق. أمّا الانقطاع في اللاهوت، فإن هو إلاّ النتيجة المأساويّة للانشقاق الكبير الذي أفضى بالشرق والغرب إلى مسارات مستقلّة، ومتضادّة أحيانًا. بيد أنّ هذا ما كان ليزعزع الأسس المشتركة. فالشرق والغرب لم يبلغا قطّ مرحلة اتّخاذ هويّة منفصلة ومكتفية بذاتها: «مهمّة اجتماعهما هي أمر مفروض على كليهما بسبب المنطق الداخليّ الذي يسوس تاريخهما. هذا هو منبع الفكرة المسكونيّة» (جورج فلوروفسكي).
الوظيفة الأولى، إذًا، التي يدعى اللاهوت الأرثوذكسيّ إلى الاضطلاع بها في الغرب، هي أن يشهد لهذا الإرث المشترك، إرث الكنيسة غير المنقسمة، لا أن يعزّز الروح المذهبيّة التي أنتجها الانقسام بين الشرق والغرب في الألفيّة الثانية، وأن يطيل عمرها. لا يليق باللاهوت الأرثوذكسيّ أن يتصرّف وكأنّه «مذهب» (confession) آخر، بل أن يدلّل على الروح والمزاج المشتركين لكلّ من الشرق والغرب في الكنيسة غير المنقسمة.
هذا يعني أنّ اللاهوت الأرثوذكسيّ مطالب بأن يعبّ من نبع كلٍّ من الآباء اليونان واللاتين. كما يتوجّب عليه أن نصغي أيضًا إلى صوت حركة الإصلاح بوصفها تشير إلى ضرورة الأمانة لتقليد الكنيسة الأولى، ومن ضمنه الكتاب المقدّس خصوصًا. هذا الكتاب وجمهرة آباء الكنيسة غير المنقسمة يجب أن يشكّلا القاعدة التي على أساسها يستطيع الشرق والغرب أن يعيدا ترميم وحدتهما. وهذا سيشكّل خدمةً لا للكنيسة فحسب، إنّما لأوروبّا أيضًا.
غير أنّ مهمّة اللاهوت الأرثوذكسيّ لا تكمن في تكرار التقليد فحسب، بل في تأويله. والتأويل، كما علّمنا هانس-غيورغ غادامر، هو مقاربة الماضي في حوار مع الحاضر، أو حتّى مع المستقبل. فالتقليد الذي لا نسعى إلى تأويله في عمليّة حواريّة مع الحاضر والمستقبل تقليد ميّت أنّى له أن يقدّم شيئًا إلى الثقافة والحضارة.
هذه المقاربة التأويليّة للتقليد ليست غريبةً عن اللاهوت الأرثوذكسيّ. إذ طبّقها آباء الكنيسة، وطبّقتها المجامع المسكونيّة. وهي تشكّل، في تصوّري، ميزةً من ميزات اللاهوت الأرثوذكسيّ الذي يشدّد أكثر من اللاهوت الغربيّ على أهمّيّة التعليم عن الروح القدس (البنفماتولوجيا) في اللاهوت. ففيما التعليم عن المسيح (الخريستولوجيا) يربط الحاضر بالتاريخ، يقوم دور الروح القدس في نقل «الأيّام الأخيرة»، أي المستقبل، إلى الحاضر (أعمال الرسل 2/18)، وتاليًا في تأويل التاريخ في ضوء انشغالات العالم الوجوديّة اليوم. يتعيّن على اللاهوت الأرثوذكسيّ أن يضع النبرة على الحوار بين التقليد والثقافة الحاضرة، لأنّ هذا هو بالضبط ما قام به اللاهوت الآبائيّ في زمنه، وما ينتج من تشديده على البعد البنفماتولوجيّ للكنيسة.
هذا يعيدنا إلى السؤال الذي طرحناه بادئ ذي بدء: ما هي وظيفة اللاهوت الأرثوذكسيّ في أوروبّا اليوم؟ ما هي الانشغالات الوجوديّة للثقافة الأوروبّيّة الحاضرة التي ينبغي للاهوت أن ينخرط في حوار معها؟
بالنسبة إلى بعضهم، أوروبّا هي أوّلاً، إن لم تكن حصريًّا، وحدة اقتصاديّة وسياسيّة. ولكن من المشكوك فيه أنّ هذه الوحدة ممكنة الوجود على قاعدة المصلحة الاقتصاديّة والثبات المؤسّسيّ حصرًا. فالتماسك المجتمعيّ هو أيضًا شرط من شروط الوحدة. ولئن تحوّل الإنسان الأوروبّيّ كلّيًّا إلى مجرّد كائن اقتصاديّ لا يفكرّ في سوى «الخبز والمسرح»، إلاّ أنّه لا يستطيع أن يكون موجودًا كأوروبّيّ من غير نظرة ما إلى العالم، أي من دون ضرب من ضروب الهويّة الروحيّة.
من وجهة نظر تاريخيّة، تشكّلت الهويّة الأوروبّيّة عبر تلاق قوى ثقافيّة وروحيّة ثلاث. الأولى أتت من اليونان القدماء المهتمّين بالطبيعة القائمة في الموجودات كلّها، أو خلفها، أي ما يمكننا تسميته الانشغال الأنطولوجيّ أو الجماليّ. وقد زجّ اليونان، عبر قبول المسيحيّة ديانةً لهم، بهذا العنصر في الثقافة الأوروبّيّة، ولا سيّما بواسطة آباء الكنيسة الناطقين باليونانيّة. أمّا القوّة الروحيّة الثانية، فأتت من الثقافة العبريّة التي لم تكن منشغلةً كثيرًا بالسؤال عن ماهيّة العالم وكيفيّته (أي طبيعته أو جماله)، بل بهويّة مبدعه. نظر العقل العبريّ إلى العالم بصفته من صنيعة كيان ما، أي بكونه حدثًا، مشدّدًا على التاريخ أكثر من تشديده على نظريّة الوجود والجماليّات. وورث العقل الأوروبّيّ هذا وطوّره بفضل المسيحيّة في تشديدها على التجسّد وتاريخ الخلاص. أخيرًا، ثمّة عامل ثالث دخل أوروبّا عبر مساهمة روما. فالعقل الرومانيّ كان ينظر إلى العالم بوصفه واقعًا ينبغي تنظيمه لكي يصبح فاعلاً ومنتجًا. تطوّرت هذه المقاربة الهادفة إلى المنفعة، وأفضت إلى نجاح العقل الأوروبّيّ نجاحًا لافتًا في مسائل كالقانون والتنظيم والثبات المجتمعيّ، فضلاً عمّا شهده زمننا من إنجازات تكنولوجيّة. هذا أيضًا بلغ أوروبّا عبر المسيحيّة والكنيسة.
طبعًا، ما قيل هنا إن هو إلاّ توصيف إجماليّ يستحيل قبوله من دون الإتيان بتحديدات إضافيّة. ولكن ما يبقى صحيحًا في أيّ حال هو أنّ أثينا وأورشليم وروما (القديمة والجديدة) هي حجر الأساس بالنسبة إلى الهويّة الأوروبّيّة، والقناة التي نقلت هذا كلّه إلى أوروبّا الحاضرة هي الكنيسة المسيحيّة ولاهوتها.
هذا كلّه يصبّ في خانة الكلام على «أوروبّا مسيحيّة». ولكن كيف السبيل إلى فهم هذا اليوم وجعله ذا معنى؟ هل ما زال في مقدورنا الكلام على أوروبّا مسيحيّة؟
في أوروبّا اليوم، ثمّة مَن يسلّم بأنّ هذه القارّة مسيحيّة معتبرًا أنّه لا يمكنها إلاّ أن تكون كذلك. كما أنّ هناك من قرّر أنّ القول بـِ «أوروبّا مسيحيّة» في هذا العالم التعدّديّ الذي نعيش فيه إنّما هو مسألة غير واردة. حين جرت، قبل بضع من السنوات، محاولة لصوغ دستور أوروبّيّ، اصطدمت دعوة بعضهم إلى الإشارة إلى جذور أوروبّا المسيحيّة بالرفض. أمّا اليوم، فتبدو علاقة أوروبّا بالمسيحيّة علاقة ملتبسة. وهذا طبعًا له تداعيات على الدور الذي يمكّن اللاهوت المسيحيّ من أن يقوم به في سبيل نقل رسالته إلى الواقع الأوروبّيّ. والكلّيّات اللاهوتيّة في أوروبّا لا يسعها إلاّ أن تتأثّر بهذا الالتباس.
ثمّة عوامل عدّة يتشكّل بها الالتباس في علاقة أوروبّا بالمسيحيّة. يتّصل العامل الأوّل بصعود نجم الدهرنة. فمع انتشار الأفكار الإنسانويّة والتنويريّة، جرى إقصار المسيحيّة على عدد من القيم الأخلاقيّة يحسبها بعضهم كافيةً للتعبير عن هويّة أوروبّا الروحيّة من دون الإشارة صراحةً إلى المسيحيّة. يكمن مثل هذه القيم في احترام الشخص وكرامته وحرّيّته وحقّه بالوجود والعيش وفق طرائق متنوّعة، شرط ألاّ تهدّد هذه كلّها حرّيّة الآخرين….
هذا يتحدّى اللاهوت المسيحيّ ويستحثّه على دخول حوار بنّاء مع الحداثة يضطلع اللاهوت الأرثوذكسيّ فيه بدور مهمّ. فلاهوت الشخص، الذي طوّره الآباء اليونان، له كلمة يقولها على فرادة الشخص واحترام الغيريّة وحرّيّة الانوجاد في علاقة – هذه الأفكار كلّها تنبع من لاهوت الثالوث. تداعيات لاهوت الثالوث على الإناسة (الأنثروبولوجيا) قادرة على توفير رابط ما في عمليّة الحوار بين المسيحيّة والثقافة الإنسانويّة الحديثة. وحريّ باللاهوت الأرثوذكسيّ أن يُظهر شجاعةً في تفسير عقيدة الثالوث الأقدس (والعقائد الأخرى) بعبارات إنسانويّة. فعقائد الكنيسة ليست مفاهيم عقليّة نعمل على تردادها، بل هي مرشد لنا في حياتنا، ويتعيّن على اللاهوت أن يستخرج مغزاها الوجوديّ.
العامل الآخر الذي يعلّل التباس علاقة أوروبّا الحاضرة بالمسيحيّة هو تحدّي المعتقدات غير المسيحيّة. كانت أوروبّا في الماضي، إلى حدٍّ بعيد، كينونةً متجانسةً من حيث الانتماء الدينيّ. أمّا أوروبّا الحاضرة، فتنطوي على تعداد هائل من البشر لا يدين بالمسيحيّة، حتّى إنّ هذا آخذ بالتكثّف في زمننا بالنظر إلى التطوّرات الحاضرة في السياسة العالميّة وتدفّق سيل اللاجئين من الشرق الأوسط باتّجاه القارّة الأوروبيّة. ويبدو أنّ أوروبّا ستضطرّ إلى مواجهة مسألة التعدّد الدينيّ، ما يشكّل تحدّيًا للاهوت المسيحيّ.
يترجّح موقف اللاهوت المسيحيّ من الأديان الأخرى بين رفض المعتقدات غير المسيحيّة برمّتها بوصفها واقعةً خارج إطار الخلاص والقول بأنّ المسيح حاضر، بطريقة ما، في هذا الأديان، حتّى ولو لم يتنبّه أتباعها إلى هذا الوجود على نحو واعٍ. قبل بضعة أعوام، نشرت وثيقة فاتيكانيّة تتكلّم بكثير من الانفتاح على علاقة المسيحيّة بسائر الأديان، فيما يذهب بعض الكتب، كتلك التي وضعها الأب جاك دوبوي (Jacques Dupuis)، وهو أستاذ سابق في الجامعة الغريغوريّة في روما، إلى اعتبار التعدّد الدينيّ جزءًا من مخطّط الله حيال الجنس البشريّ.
لم يحسم اللاهوت الأرثوذكسيّ أمره رسميًّا في هذه المسألة. فثمّة مَن يتصلّب مقصيًا غير المسيحيّين عن أيّ رجاء بالخلاص. وثمّة مَن ينحو منحى أكثر انفتاحًا يستند بعضه إلى التمييز الذي قال به فلاديمير لوسكي بين «تدبير» المسيح و«تدبير» الروح القدس، معتبرًا أنّ عمل الروح القدس لا يقتصر على دائرة المسيح والمسيحيّين، بل يطاول الجنس البشريّ والخليقة بأسرها (راجع، مثلاً، الآراء التي أفصح عنها المطران جورج خضر من كنيسة أنطاكية الأرثوذكسيّة). أمّا المغفور له يوحنّا كارميريس من جامعة أثينا، فقد عمد إلى توسيع فكرة الكنيسة (Ecclesia extra Ecclesiam)، بحيث تضمّ كلّ من يسعى إلى الخلاص بإيمان حسن حتّى ولو انتمى إلى دين آخر. وثمّة، أخيرًا، مَن يعلّق أيّ قول عن هويّة المخلَّصين حتّى المجيء الثاني.
لا شكّ في أنّ الموقف اللاهوتيّ، الذي يمكن أن يؤسّس لعيش مشترك بين مختلف المعتقدات في قارّة أوروبّيّة قائمة على التعدّد الدينيّ، هو ذاك الذي يقارب مختلف الأديان باحترام ومحبّة. عانت أوروبّا في الماضي من الخلافات الدينيّة، ما علّمنا أنّ تغذية الكراهية الدينيّة لا تقود إلى غير الدمار. وكما قال البطريرك المسكونيّ بارثلماوس في خطاب له قبل بضع من السنوات: «الحرب باسم الدين هي حرب على الدين». والحقّ أنّ اللاهوت مدعوّ إلى فتح آفاقه، بحيث يُتاح لمخطّط الله الخلاصيّ أن يشمل البشر جميعهم بصرف النظر عن اختلافاتهم الدينيّة والثقافيّة.
هذا يستتبع، في نهاية المطاف، أنّ الطريق الوحيد المفتوح للاهوت في أوروبّا الحاضرة هو طريق الحوار: الحوار مع أيّ وضع تواجهنا به الظروف التاريخيّة. هذا الحوار لا يجري في منأى عن اقتناعاتنا الشخصيّة. وهو لا يعني أن نكون لامبالين حيال الحقيقة، أو أن نضفي عليها صفة النسبيّة. هو اقتناع من دون عناد، وإخلاص ممزوج بالانفتاح على سائر الآراء. يذهب الحوار خطوةً أبعد من التسامح، إذ يشتمل على الاعتراف بأنّ «الآخر»، «المختلف» موجود لا بهدف أن يكون موجودًا فحسب – هذا هو التسامح -، بل هو موجود بصفته كيانًا يخاطبني ويقول شيئًا لي، شيئًا يتعيّن عليّ أن أصغي إليه بجدّيّة وأن أربطه بقناعاتي.
يا أصحاب السيادة، أيّها السيّدات والسادة،
الشرف الذي تسبغه عليّ اليوم هذه الجامعة العريقة يتخطّى قيمة إنجازاتي المتواضعة في اللاهوت وخدمة الكنيسة. ولعلّ السبب الوحيد الذي ربّما يبرّره هو أنّني حاولت، طيلة عمري، أن أخدم الحوار في أشكاله شتّى. وإنّي أناشد بتواضع مَن كرّسوا نفسهم لدراسة اللاهوت الأرثوذكسيّ وتعليمه أن يفتحوا حدود تقليدهم لعمليّة الحوار مع الانشغالات الوجوديّة لإخوتنا في الإنسانيّة كائنةً ما كانت أحوالهم. الأجندة اللاهوتيّة يقرّرها التاريخ. هذه الحقيقة أدركها آباء الكنيسة، الذين كانوا في حوار دائم مع زمنهم. بيد أنّها، ويا للأسف، حقيقة غفل عنها أحيانًا اللاهوت الأكاديميّ.
من بين أنماط الحوار جميعها يبقى الحوار المسكونيّ هو الأبرز والأكثر أهمّيّةً بالنسبة إلى اللاهوت. مشاكل عصرنا، سواء في أوروبّا أو في سائر أصقاع الأرض، تتطلّب جوابًا مشتركًا يقدّمه معًا كلّ الذين يؤمنون بالمسيح. ينطبق هذا على الأزمة البيئيّة، وعلى المسائل المرتبطة بأخلاقيّات علم الحياة التي يطرحها التقدّم السريع للعلم والتكنولوجيا، ولا سيّما على تحدّي التعصّب الدينيّ الذي يفضي إلى استشهاد كُثُر من المؤمنين بالمسيح بقطع النظر عن هويّتهم المذهبيّة. هذا كلّه يؤكّد أنّ الوحدة المسيحيّة أمر ملحّ. الحوار اللاهوتيّ بين المسيحيّين، وهو لا يجعل الحقيقة نسبيّةً، بل يفتحها على آراء «الآخر»، بات في زمننا مسألةً ملحاحة.
إنّنا ممتنّون جميعًا لهذه الجامعة الذائعة الصيت، لكونها أتاحت للتقاليد الأساسيّة في اللاهوت المسيحيّ، أي الأرثوذكسيّ والكاثوليكيّ والبروتستانتيّ، أن تكون في حوار وتعاضد مستمرّين على أعلى المستويات الأكاديميّة. فليغدق الله بركاته غزيرةً على هذه الخدمة للحوار المسكونيّ التي لا تقدّر بثمن، عساها تحمل جزيل الثمر في سبيل وحدة الكنيسة ومنفعة الجنس البشريّ. وشكرًا.
نُشر في مجلّة النّور، العدد الأوّل 2016