موتٌ فقيامة

الأب جورج مسّوح Sunday April 30, 2017 321

لا تُجمع الأناجيل على حدث كما أجمعت على حقيقة صلب الربّ يسوع وقيامته من بين الأموات. فرغم اختلاف الأناجيل في بعض الروايات، أو حتّى إغفال بعضها عن روايات أساسيّة تتضمّنها الأناجيل الأخرى، كإغفال إنجيل يوحنّا عن إيراد روايتَي التجلّي والكلام التأسيسيّ في العشاء الأخير، ثمّة إجماع لا ريب فيه على حدث الصلب واكتماله بحدث القيامة.

حدث القيامة هو الحدث التأسيسيّ للمسيحيّة التي تتميّز، عن سواها من الديانات الأخرى، بإيمانها بإلهها الكائن منذ الأزل، الذي أخلى ذاته وصار إنسانًا، وكابد الآلام والتعذيبات والصليب والقبر، ثمّ قام في اليوم الثالث قاهرًا الموت وواهبًا الحياة لـمَن آمن به. القيامة أيضًا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا، وفق الإجماع المسيحيّ، بالصليب. فالصليب أضحى لا بدّ منه للبلوغ إلى القيامة التي أسبغت عليه معاني تتجاوز الشهادة إلى الفداء والخلاص.

المسيح المصلوب ليس مجرّد شهيد كسائر الشهداء، بل هو الإله الفادي، مخلّص البشريّة، واهب الحياة الأبديّة. فلو لم يقم المسيح من بين الأموات، لكان شهيدًا عظيمًا على مثال الأبرار والصدّيقين والأنبياء الذين استشهدوا في العهد القديم. لكنّه قد قام، ووهبنا أن نصير شركاءه في هذه القيامة، إذ وعدنا بإقامتنا معه. فكما قام يسوع، “سيقوم الأموات في المسيح” (1تسالونيكي 4، 15). وهو نفسه “باكورة الراقدين” (1كورنثوس 15، 20)، أي أوّلهم، لذلك يتابع كاتب الرسالة مقابلاً بين آدم ويسوع فيقول: “كما في آدم يموت الجميع كذلك في المسيح سيحيا الجميع” (15، 22)، وكما يخاطب أيضًا أهل رومية قائلاً: “فالذي أقام يسوع من بين الأموات يحيي أيضًا أجسادكم الفانية بروحه الحالّ فيكم” (رومية 8، 11).

كيف يمكن الاشتراك في موت المسيح وقيامته؟ الجواب عن هذا السؤال ضروريّ كي نستطيع أن نرسم دربنا إلى الحياة السليمة الموافقة لما يريده الربّ منّا. والكنيسة، الأمينة على التقليد المسيحيّ الحيّ، القائم على الكتاب المقدّس والتراث الآبائيّ وسير القدّيسين. هذا التقليد الشريف الذي نستقي منه الإيمان المستقيم والسلوك المسيحيّ والتعليم السليم هو دليلنا إلى الحياة وفق يسوع المسيح.

لا ريب في أنّ موت المسيح وقيامته نحياهما في الأسرار المقدّسة التي نشارك فيها. فسرّ المعموديّة هو في أساسه اشتراك في موت المسيح وقيامته: “لأنّا إذا كنّا غُرسنا معه على شبه موته فنكون على شبه قيامته أيضًا (…) فإنْ كنّا قد متنا مع المسيح نؤمن أنّا سنحيا أيضًا معه” (رومية 6: ٥- ٨). أمّا سرّ الإفخارستيّا، القدّاس الإلهيّ، فيرتبط ارتباطًا وثيقًا بقيامة الربّ، إذ إنّ الاشتراك في جسد الربّ ودمه هو اشتراك في جسد حيّ، لا بجثّة هامدة مهترئة فاسدة: “أنا الخبز الحيّ الذي نزل من السماء، إنْ أكل أحدٌ من الخبز يحيا إلى الأبد (…). مَن يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبديّة وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يوحنّا ٦: ٥١- ٥٥).

نحيا موت الربّ وقيامته أيضًا في حياتنا اليوميّة، وليس في حياتنا العباديّة وحسب. فالرسول بولس، في تعليمه عن المعموديّة، يدعو المعمّدين إلى عيش إيمانهم في سلوكهم اليوميّ، وإلى اعتبار أنفسهم “أمواتًا للخطيئة، أحياءً للَّه بربّنا يسوع المسيح” (رومية 6: 11). لذلك ينبغي للمعمّدين أن يقبلوا بالعيش وفق تعليم الربّ يسوع: “إذ نعلم أنّ إنساننا العتيق قد صُلب مع المسيح لكي يُتلف جسد الخطيئة حتّى لا نعود نُستعبد للخطيئة” (رومية 6: 6). هكذا، إذًا، في المعموديّة يُدفن الإنسان العتيق ليقوم إنسانًا جديدًا ويسلك مع المسيح “في جدّة الحياة”.

هذه الحياة الجديدة تتطلّب من المعمّدين أن يميتوا شهواتهم وأعضاءهم التي على الأرض “الزنى والنجاسة والفجور، والشهوة الرديئة، والبخل الذي هو عبادة وثن، والغضب والسخط، والخبث والتجديف، والكلام القبيح والكذب” (كولوسّي ٣: ٨- ٩). الحياة الجديدة، كما تقول الرسالة عينها، هي في تنفيذنا الأمر الإلهيّ الصريح: “اخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله، والبسوا الإنسان الجديد الذي يتجدّد للمعرفة على صورة خالقه” (3: ٩- ١٠).

المسيحيّ مدعوّ، بمعموديّته، إلى عيش القيامة مع الربّ، من حيث هو “إنسانٌ جديد” قد دفن العتيق فيه، إنسانٌ جديد يحيا مع الربّ منذ الآن. المسيحيّة ليست سوى هذه الحياة الجديدة الممتدّة إلى حياة أبديّة. هي هذا التذوّق المسبق للملكوت الآتي الذي أتاحه المسيح، بموته وقيامته، للمؤمنين به.

 

مجلة النور، العدد الثالث 2017، ص 114-115

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share