بين النّتائج الأكاديميّة والصّحة النفسيّة لأولادنا

زينة أبو الرّوس - إختصاصيّة في علم النّفس التربويّ Wednesday November 7, 2018 1627

مَنْ منّا لا يتذكّر القلق الذي كان يغزو معِدته في أوّل يوم مدرسيّ. هل سيكون رفاقُه في الصفّ نفسِه؟ هل ستكون المعلّمة لطيفة؟ هل سيتمكّن من النجاح هذه السنة؟ هل سيكون هناك الكثير من الفروض المنزليّة؟ هل سيلاحقه، هذه السنة أيضاً، ذلك التلميذُ الذي كان دائماً يهزأ به؟
قد تتبدّد هذه المخاوف عند بعض التلاميذ بعد بضعة أيّام من بداية العام الدراسيّ، عندما يعتادون على مسار العمل، ومتطلّبات الأساتذة، ومنهج السنة الجديدة، والأصدقاء الجدد. ولكن خبرة البعض الآخر من التلاميذ قد تكون أشدّ صعوبةً وأكثرَ ألماً. فبالنسبة لبعض التلاميذ، فإنّ السنوات الدراسيّة هي من أصعب سنوات حياتهم.

متطلّبات الأهل
يشعر الكثير من أولياء الأمور بقلقٍ كبير حيال نتائج أولادهم الأكاديميّة، فنراهم يلاحقون بدقّة مواعيد الامتحانات ونتائجها. يبدو البعض منهم وكأنّه هو من لديه امتحان. بعض الأهل الآخرين يطلبون من أولادهم نتائج عالية جدّاً ولا يكافئونهم إن أحرزوا أقلّ ممّا يتوقعون حتّى لو كانت نتائج جيّدة. وقد يذهب البعض من الأهل أيضاً إلى فرض قصاصات على أولادهم في حال عدم نيلهم النتائج المرجوّة. في بعض الأحيان يصوّر أولياء الأمور نتائج الامتحانات على أنّها هديّة لهم. فكثيراً ما نسمع عبارة “رح إشتريلك هديّة إذا جبتلّي عشرين على عشرين”.
تشكّل النتائج الأكاديميّة في الكثير من الأُسَر، محور علاقة الأهل بالأبناء، فتصبح هذه العلاقة جيّدة في حال نجح الأولاد، وتَسوءُ في حال رسوبهم. ما يفهَمه الأولاد في هذه الحالة هو أنّهم لن يكونوا محبوبين إلّا إذا كانت علاماتهم جيّدة ممّا يؤثّر سلباً على تكوين شخصيّتهم وتقديرهم لذواتِهم. وبدل أن يعطيَهم ذلك حافزاً على الدّراسة واهتماماً حقيقيّاً بها فإنّه يزرع فيهم خوفاً كبيراً من عدم إرضاء والديهم، وبالتالي من فقدان محبّتهم. وقد أصبح معلوماً من خلال الدراسات النفسيّة والعصبيّة أنّ الخوف شعور يحدّ من قدرة الإنسان على التركيز، والتفكير، والخلق، ويمنعه من متعة التعلّم.

الصعوبات والاضطرابات التعلميّة
يترك الكثير من الطلّاب الدراسة باكراً بسبب عدم قدرتهم على الانتقال بنجاح من سنة دراسيّة معيّنة إلى سنة أخرى. يصنّف المجتمع هؤلاء على أنّهم أذكياء ولكنّ “العلم مش إلهم”، و”مش طالع منهم درس”. خلال السنوات الثلاثين الماضية، ومع تطوّر بعض الاختصاصات، كعلم النفس المعرفيّ، والدراسات النفسيّة العصبيّة، أصبح بمقدورنا تحديد الأسباب الكامنة وراء عدم قدرة الطالب على إكمال تحصيله العلميّ. في الواقع، إنّ أبرز أسباب التسرّب المدرسيّ هو الصعوبات والاضطرابات التعلميّة التي يعاني منها حوالى 13% من طلاب المدارس (حسب إحصاءات أميركيّة). من هذه الاضطرابات نذكر عُسر القراءة (Dyslexia)، وعُسر الكتابة (Dysgraphia)، وضعف القدرة على حلّ المسائل الحسابيّة (Dyscalculia)، واضطراب قلّة التركيز وكثرة الحركة(ADHD) وغيرها. إنّ الأولاد الذين يعانون من إحدى هذه الاضطرابات يصعب عليهم القيام بعدد كبير من الأنشطة المطلوبة منهم في الصفّ. فمثلاً، يكفي أن يعاني الولد من عُسرٍ في القراءة حتّى يصعبَ عليه كلُّ عمل يتطلّب قراءَةَ نصّ وفهمه، وتصعب عليه حتّى المسائل في موادّ الرياضيّات، والعلوم والجغرافيا وقراءة أسئلة الفروض والامتحانات. فكثيراً ما نرى هؤلاء الأولاد يفقدون اهتمامهم بالدراسة بسبب شعورهم بالعجز والفشل، ويتجنّبون القيام بالمهامّ المطلوبة منهم والتي تتطلّب بأغلبيتها القراءة، فيُتَّهمونَ بالكسل. إنّ الطريقة الفضلى للتعامل مع الصعوبات التعلميّة لدى الأولاد تكمن في تحديد هذه الصعوبات بشكل دقيق، من خلال التشخيص من قبل متخصّصين، وفي حال اكتشاف اضطراب ما، يجب وضع خطّةِ عمل بالتعاون مع المدرسة والإختصاصيّين والقيام بتكييفات تساعد الولد على تخطّي الصعوبة. فمثلاً يمكن استبدال الامتحانات الخطيّة بامتحانات شفهيّة لمن يعاني من عسر في الكتابة، أو يمكن قراءة أسئلة الفروض والامتحانات لمن يعاني من عسر في القراءة.

الذكاء والتحصيل العلميّ
يعتبر البعض أنّ الذكاء الذي يتحلّى به الولد عليه أن يظهر حكماً في علاماته العالية، وفي مسيرته العلميّة المميّزة. وقد يكون ذلك صحيحاً في حالات عدّة. لكنّ الواقع يبيّن لنا أنّ الكثير من الأشخاص الخلّاقين الذين يتحلّون بدرجة عالية من الذكاء، لم يستطيعوا أن ينجحوا في مسيرتهم الأكاديميّة في المنظومة التربويّة التقليديّة. من المفروض أن نسأل إن كانت مناهجنا التربويّة تلحظُ وتنمّي أنواعَ الذكاء كلّها، ومواهب الطلّاب جميعها. فبعض الطلاب الذين يعانون من صعوبات في التعلّم، لديهم مواهب كبيرة لم يتمَّ اكتشافها بسبب التركيز المفرط على الصعوبات.
برز في العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين باحث في علم نفس التطوّرdevelopmental psychology  وأستاذ في جامعة هارفرد يدعى “هاورد غاردنر”. وقد اقترح نظريّة عن الذكاء اعتُبِرَتْ ثوريّة وانتُقِدَت كثيراً. تقوم نظريّة “الذكاءات المتعدّدة” عند غاردنر على اعتبار أنّ الإنسان يتحلّى بقدراتٍ أو أنواع متعدّدة من الذكاء مستقلّة عن بعضها البعض وهي: الذكاء الموسيقيّ/الإيقاعيّ، والذكاء النظريّ/المكانيّ، والذكاء اللفظيّ/اللغويّ، الذكاء المنطقيّ (الرياضيّات)، الذكاء الجسديّ/الحركيّ، ذكاء العلاقات الإنسانيّة، الذكاء الشخصيّ(القدرة على معرفة الذات). تحدَّت هذه النظريّة النظرة التقليديّة الضيّقة لقدرات الإنسان الذهنيّة، وجوبِهَتْ بانتقادات كثيرة. وقد جرت عدّة محاولات في بلدان مختلفة لاعتماد هذه النظريّة كمنطلق لتغيير المناهج الدراسيّة وجعلها تنمي قدرات الإنسان كلّها. إلّا أنّ منظوماتنا التربويّة، وبخاصّة في بلداننا العربيّة، ما زالت تقليديّة لا تعطي للفنّ والموسيقى والرياضة والقدرات التواصليّة، المكانة التي تستحقّها. لم تستطع مدارسنا حتّى اليوم اكتشاف كل الكنوز التي يملكها أطفالنا، والتي بإمكانها إيصالهم إلى نجاحات كبيرة في المهن وفي الحياة.

حقّ أولادنا
بعد أن عرضنا بعضاً من المشاكل التي قد يواجهها أولادنا في مسيرتهم الأكاديميّة، نرى من المهم أن ننبّه إلى بعض النقاط الأساسيّة التي تقودنا إلى اختيار المواقف السليمة لمساعدتهم.
أولادنا هم الكنز الحقيقيّ وهم يأتون في الدرجة الأولى، وصحتهم النفسيّة أهم من نجاحهم الأكاديميّ. فتحلّي الولد بتقدير جيّد لذاته سوف يعطيه الثقة بنفسه اللازمة ليتخطّى الصعوبات التي قد تواجهه. بينما يواجه الولد الذي لا يتمتّع بتقدير جيّد لذاته صعوبات كثيرة منها القلق والشعور بالفشل، وقد يؤدّي به ذلك إلى تبنّي نظرة غير موضوعيّة للواقع تجعله يضخّم الصعوبات والمشاكل التي يواجهها، ولا يقدّر مواهبه، فينتهي به الأمر إلى فقدان الحافز على التقدّم وتخطّي المشاكل، أو إيجاد وسائل خلّاقة للتكيّف معها.
يُنصح الأهل والمربّون دائمًا، بتقدير جهود الأولاد ومحاولاتهم (حتّى المحاولات التي لم تصب الهدف)، والحدّ قدر المستطاع من انتقادهم بسبب نتائجهم الأكاديميّة. قد تكون العلامات الجيّدة في بعض الحالات عاملاً من عوامل النجاح، والوصول إلى بعض المراتب العالية. ولكنّ تقدير الذات والثقة بالنفس هما بالتأكيد المكوِّنٌ الأساسيّ للصحّة النفسية، وهما يساعدان الإنسان على تخطّي الحواجز، وعلى الطموح وعلى إقامة علاقات اجتماعيّة وإنسانيّة جيّدة، ولعب دور قياديّ في العمل.
علاقتنا كأهل بأولادنا هي علاقة ثابتة لا تشترط حصولهم على علامات جيّدة. محبة الوالدين الثابتة هي العامل الأساسيّ في نموّ الأولاد النفسيّ والعقليّ، وفي شعورهم بالأمان. إنْ تزعزعت هذه المحبّة، أو كانت مشروطة، فإنّها تولّد نواقص عاطفيّة أساسيّة قد ترافق الطفل مدى حياته.
من المهمّ أن يشعر كلّ طفل، من خلال سلوك والديه معه، بأنّه محبوبٌ دائماً بغضّ النظر عن الظروف، وعن سلوكه وعن نتائجه الدراسيّة. فالولد لا يدرس لكي ينال محبّة والديه وأساتذته، بل هو يدرس لكي ينمّي قدراته ويكتشف مواهبه، ويفرح بالمهارات والمعلومات التي يكتسبها. وكي يتمكّن أيّ طفل من إدراك ذلك على والديه الانتباه إلى الأمور التالية:
– التمييز بين الولد وسلوكه، واستخدام عبارة “أنا لا أحبّ ما فعلته” بدلاً من “أنا لا أحبّك لأنّك فعلت هذا”
– عدم القيام بردّة فعل قاسية جدّاً أمام الخطأ (وبخاصّة الأخطاء التي يقوم بها الولد في الامتحانات والفروض) واعتبار السلوك الخطأ فرصةً للتعلّم والتحسّن.
– الانتباه إلى نوعيّة الوقت الذي نقضيه مع الولد. فمن المهمّ جداً ألّا يقضي الوالدان الوقت كلّه مع أولادهم في القيام بالفروض المنزليّة أو في الكلام على الدراسة. فعلاقتهم بأولادهم لا تقتصر على هذا الأمر فقط. بل عليهم قضاء وقت في اللعب مع أولادهم والتحدّث إليهم والمزاح معهم ووالقيام وإياهم بنشاطات رياضيّة. فهذا مهم جدّاً لبناء علاقة متينة، وآمنة بين الأهل والأولاد.

قد يعاني بعض أولادنا من صعوبات في التعلّم قد تنتج عن أسباب وراثيّة وبيئيّة دون أن يعني هذا أن الولد لا يتمتع بالذكاء أو أنه كسول. على الأهل أن يأخذوا موقفاً منفتحاً في حال عانى أحد أولادهم من صعوبات في التعلّم. فكما لدى كلٍّ منّا قدرات ومواهب، كذلك يواجه كلٌّ منّا صعوبات. علينا النظر إلى الصعوبات التعلمية كما ننظر إلى أي من الصعوبات والحواجز التي أصبح من الممكن تخطّيها. يمكن مساعدة التلميذ على تخطي صعوبات التعلّم وإن قدّمنا لهم الدعم المتخصص الذي يحتاجونه وهذا غير ممكن إن لم يتعاون الأهل والمدرسون والمتخصصون في وضع خطة عمل تُطَبَّق في المدرسة والبيت و خلال جلسات المتابعة المتخصصة. من حق أولادنا في هذه الحالة ألّا يطردوا من المدرسة أو يتركوا دون مساعدة إذا كانوا يعانون من صعوبات أو اضطرابات تعلميّة.
كلّ طفل يتحلّى بمواهب وقدرات ومن واجبنا اكتشافها ومساعدته على تنميتها. لكن مع الأسف فإنّ منظوماتنا التربويّة قد لا تلحظ هذه المواهب. علينا رغم هذا أن نؤمن بما وضع الله من مواهب في أولادنا وأن نسعى معهم لاكتشافها وتطويرها. وبسبب أنّ المناهج التعليميّة في بلادنا لا تعطي مكاناً كافياً لتلك المواهب كلّها فمن واجبنا كأهل الانتباه إليها، ومساعدة ولدنا على تخصيص وقت لها.

المواد الأكاديميّة وربطها بحياة الولد اليوميّة.
يواجه بعض أولادنا الذين يتحلّون بنسبة ذكاء عالية من صعوبات في التعلّم. وذلك بسبب الطرق التي نستخدمها في الشرح والتدريس. فغالباً ما يُطلب من الأولاد حفظ معلومات كثيرة لا يجدون لها أي معنًى أو أيّة علاقة بخبرتهم اليوميّة. فنحن عادةً نفصل ما هو أكاديميّ عن الحياة. وهذا يجعل محتويات الموادّ الأكاديميّة جافّة وصعبة الحفظ. يمكننا مساعدة أولادنا في دراستهم عندما نقضي وقتاً معهم في اختبار ما يتعلّمونه ونقله إلى حياتهم اليوميّة. يمكن مثلاً أن نقوم معهم بعمليّات حسابيّة عند شراء حاجيّاتنا، ونساعدهم في الكتابة عندما نكتب معهم رسالة دعوة أصدقائهم إلى عيد ميلادهم، ونساعدهم في موادّ العلوم عندما نقوم معهم بالاختبارات العلميّة في البيت. فعقل الإنسان يختزن المعلومات التي لها معنى، ويجد صعوبة كبيرة في حفظ محتويات غريبة لا علاقة لها بخبرة الحياة اليوميّة.

 

164 Shares
164 Shares
Tweet
Share164