الأرشمندريت إلياس مرقص
“ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت” (مز ١٤: ٣٦)
إنّ آدم وحوّاء طردا من الفردوس وصارا إلى الموت لعدم طاعتهما الله. ويسوع، “آدم الجديد”، خلّص الإنسان وأعاده إلى الله بطاعته الآب حتّى الموت، موت الصليب.
فالطاعة إذاً فضيلة الخلاص. إنّها فضيلة جوهريّة كيانيّة. بها نتخلّى عن جذور أنانيّتنا، أي عن الإرادة البشريّة كمختلفة عن إرادة الله، لكي نعيدها إلى الإرادة الإلهيّة.
طاعة الله لا تهدم الإرادة البشريّة بل تعيدها إلى أصلها، إلى طريقها الأوّل في الفردوس قبل السقوط.
بالطاعة لله نتنازل عن الكيان المخلوق من العدم لننال الكيان المطلق الذي هو الله.
إنّها الفضيلة الأولى والأخيرة، فضيلة اتّجاه الحياة.
بالطاعة لله نتغلّب على أساس الشرّ. لأنّ أساس الشرّ (في كلّ المجالات) هو التمسّك بمشيئتنا. بأنانا ولذا “من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه”، و”من أهلك نفسه يخلّصها”… لأنّنا إن لم نتخلَّ عن أنفسنا فلم نتخلَّ عن شيء.
وهذه الطاعة لله نمارسها (إلى حدّ ما) في الطاعة المتبادلة في علاقتنا بعضنا ببعض. أي أنّنا نتخلّى عن أنانيّتنا بغية حفظ الوصايا مع الاتّضاع والمحبّة. بين ثمار الروح المحبّة واللطف (غلا ٥: ٢٢ وما بعدها). فعلى الإنسان كشخص أن يكون منفتحًا للآخرين ومتقبّلًا لهم. لأنّ الإنسان (بخلاف الحيوان) مصدرٌ لإرادة واعية وحرّة. إنّه “شخص” وليس “فردًا” وحسب. وعندما يتجاوز فرديّته وانغلاقه يبدأ أن يصبح شخصًا. “فالشخص” في الإنسان (بخلاف الفرد) هو ما يجمع بين الناس لا ما يفرّقهم. ولذا على الإنسان أن يبقى منفتحًا ومتقبّلًا للآخرين. إنّ التنازل عن إرادتنا لا يُنقصنا، بل الطاعة بروح المحبّة تزيد الشخص بينما العكس يُنقصه ويقلّصه.
إنّ الطاعة السليمة ليست خضوعًا لسلطة خارجيّة. فالطاعة شيء والخضوع شيء آخر. الخضوع يشوّه الإنسان ويحوّله إلى “موضوع” بدلًا من “ذات”، إلى “شيء” بدلًا من “شخص”. أمّا الطاعة فتصدر من الداخل وتقوم على الولاء والمحبّة الداخليّة لله (وللناس). فمن يطيع خارجيًّا من دون أن يكون وعيه الشخصيّ ووجدانه الذاتيّ مستنيرين بالطاعة لله وبالمحبّة، ليست طاعته طاعة بل خضوعًا .
ثم إنّ الطاعة السليمة بعضنا لبعض ليست طاعة عمياء. إنّما تقوم في حدود حفظ الوصايا والثقة المتبادلة في خطّ إرضاء الله والفهم الروحيّ والاتّضاع والروحانيّة الواحدة .
إنّ فعل “أطاع” باللغة اليونانيّة يساوي فعل “استمع” و”أصغى”. فالطاعة هي “الإصغاء” الداخليّ لصوت الله. بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى… هي الانفتاح الكلّيّ الكيانيّ لصوت المسيح وعدم السماح لحرّيّتنا وإرادتنا بالانغلاق على ذاتها.
إنّ الطاعة هي الشكل الأخير للحرّيّة. وبخاصة الطاعة الرهبانيّة. بالطاعة يقرِّب الراهب ذاته لله بحرّيّته، يقرِّب إرادته بإرادته، ولذا يبقى منفتحًا لتقبّل النعمة الإلهيّة على الدوام، ويكون حرًّا حقًّا، معتقًا من إرادته الفاسدة.
فوظيفة الراهب في هذه الحياة أن يذهب بشرعة الإنسان إلى أقصاها، أن يسعى إلى تحقيق كامل “برنامج” الإنسان في يسوع المسيح. ولذا عليه أن ينفتح للمسيح حتّى تبادل الإرادتين، فيتخلّى عن إرادته الذاتيّة لينال مكانها إرادة المسيح، الإله – الإنسان الكامل، أي إرادة الإنسان الحقّ. وذلك هو معنى القول “من أهلك نفسه من أجل الإنجيل يخلّصها”. ولذا استطاع بولس الرسول أن يقول: “لست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ”.
هذا وإنّ طاعة الراهب موجّهة مباشرة إلى المسيح، (عبر الرؤساء)، إلى المسيح الذي أطاع حتّى الموت، موت الصليب، وكان عنوان حياته كلّها على الأرض: “لتكن مشيئتك لا مشيئتي”. فنذر الطاعة الرهبانيّ هو الأساس في حياة الراهب. لذلك كان اختبار الطاعة أوّل اختبار يختبر الرؤساء به طلّاب الترهّب.
الطاعة الرهبانيّة تطرد كلّ ما هو غريب وغير مقدّس. فهذا العالم ينبغي له أن يتقدّس في الراهب ويتجلّى. في الدير كلّ شيء قدسيّ، كلّ شيء موضوع “تحت علامة” الله. كلّ شيء يتّخذ قيمة إلهيّة وإلّا…
والطاعة تبعد عنّا كل ريبة وشكّ. كلّ قلق وبلبلة. إنّ أعمالنا تتبعنا. فإن تمّت في الطاعة كانت كلّها مثمرة، وجنينا ثمارها الروحيّة استقرارًا وسلامًا… وإلّا فلا.
الطاعة تتمّ داخليًّا لا خارجيًّا فقط. وهي تتمّ حبًّا بالمسيح ، ومن أجل المسيح، ليس لانسجامهما مع فكرنا ورأينا ورغبتنا… فيجب أن نتبع المسيح على الصليب أيضًا وإلى الجحيم: جحيم ضيقاتنا وآلامنا، لكي نقوم معه، ونكون حيث هو يكون. فبالطاعة حتّى الجحيم ننال “قوّة” المسيح (vertu christique)، قوّة عدم اقتبال الفساد في القبر…
المرجع : مجلة النور العدد السابع ١٩٩٨