مغزى الذهاب

الأرشمندريت إلياس مرقص Monday August 17, 2020 289

الأرشمندريت إلياس مرقص

يتركنا بين الفينة والأخرى أخ عزيز علينا ويذهب، ملبّيًا نداء يسوع، إلى الدير أو ينخرط في سلك الكهنوت غير عابئ بكلّ ما يقال عنه أو يحاك حوله، متجاوزًا بذلك العالم وآراءه وفذلكاته.

وهذه الكلمة توضح لنا مغزى ذهاب هؤلاء الأخوة.

الذين يذهبون عنّا وراء «الرؤية البعيدة» (ويفتّتون قلوب محبّيهم) لا يذهبون في الحقيقة باسمهم فقط بل أيضًا ورغم كلّ المظاهر باسم محبّيهم أنفسهم ومعارفهم وجميع أعضاء الكنيسة. ذلك بأنّ انطلاقًا مثل هذا لا يمكن أن يكون انطلاقًا فرديًّا، عملًا شاذًّا أنانيًّا. إنّ انطلاقًا مثل هذا لا يمكن أن يكون إلّا باسم الجماعة كلّها التي تمخّض فيها وظهر، باسم الجسم كلّه ومبادئه المثلى وأسسه وغايته. نعم إنّ من ينطلق لا ينطلق وحده بل يمثّل ويحمل معه بشكل ما الكنيسة كلّها، بكراماتها وضعفاتها، يحمل «حاجتها الوحيدة»، فينطلق منها وعنها قربانًا إلى النور يحوي بصورة مصغّرة كيانها العميق وأمانيها الخفيّة: كلّ ما تكنزه في جوهرها من طهر وحبّ وعطاء وشجاعة.

الذين يذهبون عنّا هكذا انطلاقهم غريب في نظر العالم، ولكنّهم في الحقيقة لا يسلكون شرعة غريبة. هي تبدو غريبة نظرًا إلى النسيان والتحجّر. أمّا هم فقد أصغوا إلى من قال: «من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلّصها..». لقد آمنوا بأنّ هناك حكمة غير حكمتنا الصغيرة حكمة هذا الدهر: «أحكامي غير أحكامكم وطرقي غير طرقكم يقول الربّ..»، «واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدّي إلى الهلاك وكثيرون هم الذين يدخلون فيه، وضيّق الباب وكرب الطريق الذي يؤدّي إلى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه..». لقد تلقّوا النداء السماويّ النيّر لا كلامًا فارغًا نكرًا بل دعوة شخصيّة ضميريّة: «من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني». وأيضًا «الحصاد كثير والفعلة قليلون فاطلبوا إلى ربّ الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده».. فكانت لهم شهامة من ينتصب ويقول «هاءنذا يا ربّ». لقد سمعوا وأجابوا وهذا هو فضلهم.

لقد تخطّوا تخوم الفتور والشكّ والتردّد. في يقين الحبّ أقلعوا فكان حبّهم الحبّ الصحيح: «من كلّ القلب وكلّ الذهن وكلّ القوة..» خشي عليهم منطق الناس من الهدر والتلف ولكنّهم كسروا القارورة. إلههم إله حيّ فحطّموا الحلقة النكرة حلقة الغموض والإحجام. وبهذا طرحوا علينا المشكلة الحقيقيّة: إلى متى يا قوم لا نفهم بل نجحم أو نعترض ونقاوم! إلى متى لا نبلغ طور الوضوح في الدين والإيجاب؟ إلى متى لا ننتقل من طفولة الإيمان؟ هل نبقى إلى الأبد في حالة عدم الإقدام، في السطحيّات الجميلة والعاطفة الرخيصة؟ أكثير على الربّ أن نؤمن حقًّا بكلامه ونجيب؟. من بديهيّات المسيحيّة أن يكون المسيحيّ مستعدًّا لشهادة الدم من أجل ربّه أفكثير أن نلتزم خدمته؟ سرّ الإثم يعمل في الكون ويفتك أكثير إن افتدينا الوقت؟.. أم نعرّج على الجانبين، نضع يدنا على المحراث وننظر إلى الوراء، ونفتري على الأمجاد؟. لمّا دعاهما «للوقت» تبعاه يقول الكتاب. تركا الشباك وتبعاه.. والآخران تركا السفينة وأباهما وتبعاه. والآخر قام عن مائدة الجباية وتبعه.. «هاءنذا يا ربّ».. «هاءنذا أمّة للربّ.. »، هذه قصّة كلّ الكتاب وهذه كلّ قصّتنا مع الله..

لا، إنّه يكذب ! العدوّ يكذب حين يقول: هذا شيء استثنائيّ نادر وفائق الطبيعة.. لا، إنّ نعمة الربّ للجميع وهي تكمل كلّ نقص. منذ البدء كان هذا ومنذ المعموديّة. إنّما الربّ واقف على الباب ويقرع. والذي يفتح له يتعشّى معه. لا ليست الدعوة مقصورة على أحد ولا الخدمة بعيدة عن أحد بل مطلوب فعلة للحصاد. وإذا ما فتحنا قلبنا لمطلب الربّ فحينئذٍ هو يعضدنا ويكملنا. بالتكريس بالضبط يكتمل المرء ويتّزن، يتحقّق وينال كيانًا أوفر. بالمسير يسير لا بالوقوف. وإنّما تنقصنا شجاعة الخطوة الأولى وحسب. والآن ماذا نقول؟ هل يليق بالشباب التردّد والإحجام؟ هل كانت الشجاعة يومًا مدعاة لملامة أم لافتخار واعتزاز؟ هل كان العطاء يومًا ذميمًا أو هو سخاء الحياة؟. مع أنّه سيأتي يوم لا بدّ لنا فيه من الاختيار.. هؤلاء الذين ذهبوا قد عرفوا أنّ الأفق غير مغلق فتخطّوه لينيروا لنا الطريق. هؤلاء قد أقدموا لا من أنفسهم وبقوّتهم ولا من أجل أنفسهم، بل بقوّة الله ونعمته ومن أجل كنيسته. فهل يبقون وحدهم؟ لقد ضحّوا بأنفسهم وخاطروا وهم يتعرّضون في حياتهم الجديدة إلى أخطار كثيرة لأنّ كلّ قوى الشرّ تقاومهم. لا لم يذهبوا في نزهة وراحة.. ولكنّهم ليسوا وحدهم.. الجماعة أيضًا – وإن جهلت نفسها أحيانًا – الجماعة معهم تسندهم وتحملهم. بلى على الجماعة أن تكون معهم وتسندهم وتحملهم. لا بقلبها اللحميّ فقط بل بقلبها الروحيّ أيضًا: بقبولها وصلواتها وإجماع تضرّعاتها أمام الله من أجلهم.. فليحمهم الربّ من كلّ شرّ ويتمّم قصده المقدس فيهم وفي أمثالهم آمين.

 

 

 

المرجع: مجلّة النور، العدد الثامن، تشرين الأوّل ١٩٦٥.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share