مرسيل مرقص
عندما قامت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة منذ أربع عشرة سنة، انبثقت عن المشكلة الأساسيّة الكامنة في صميم الطائفة. وهذه المشكلة الأساسيّة ما تزال قائمة حتّى اليوم وهي: «أنّ الطائفة موجودة ولكن لا كما يجب أن توجد». الطائفة موجودة ولكنّها تعلم وتشعر أنّ وجودها، بشكله الحاضر، وجود ناقص غير كامل، وهي تسعى نحو وجود كامل. وليس المؤتمر الأرثوذكسيّ الأخير في دمشق وليست الانتخابات الملّيّة القادمة في الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس والأحاديث المختلفة في كلّ بيت أرثوذكسيّ حول الإصلاح والتنظيم سوى مظاهر سعي الطائفة نحو وجود أصلح وأكمل. وهذا يبشّر بالخير إن شاء الله ويدلّ على أنّه هناك روح نهضة وتحرّك في الطائفة.
إلّا أنّنا إذا حلّلنا الموقف ببصيرة ودقّة، نرى أنّنا، رغم القوانين والانتخابات المرتقبة وسائر التنظيمات المنشودة، نلمس في أعماقنا شيئًا من عدم الارتياح وعدم الاطمئنان الكلّيّ، على مصيرنا كطائفة مثاليّة يسودها الوئام المسيحيّ والنشاط البنّاء. نشعر أنّنا بحاجة إلى شيء آخر غير القوانين والانتخابات وبالإضافة إلى القوانين والانتخابات وأنّ هناك خللًا، لا بدّ من أن يكون هناك خلل ما في طريقة وجودنا وطريقة كياننا وحياتنا الآن.
فأين الخلل؟
الخلل، نراه في صفة واحدة، في صبغة واحدة نصطبغ بها جميعًا، وهذه الصفة هي: الاستقالة. الاستقالة من المسيحيّة. نحن كمسيحيّين مستقيلون من المسيحيّة. لسنا مستقيلين من الطائفة ولكن من المسيحيّة. أي أنّنا مستقيلون لا اسمًا ولكن فعلًا. وهذه لعمري أبشع أنواع الاستقالة… وهذا ما يفسّر لنا عدم إثبات وجودنا كمسيحيّين، نحن لا نثبت وجودنا كمسيحيّين لا بين بعضنا البعض ولا مع الآخرين. في الكنيسة نستحي أن نصلّي. في البيت، كم من بيت أرثوذكسيّ ليس فيه إنجيل ولا يعرف معنى الصلاة! في المجالس والأحاديث نتنصّل من العقائد المسيحيّة الأساسيّة كألوهة المسيح له المجد، ونستهزئ بالأخلاق المسيحيّة الأوّليّة كالمحبّة المجّانيّة ومحبّة الأعداء، كأنّنا حاولنا أن نطبّقها ونعيشها فلم نجد فيها حقيقة الإنسان الأخيرة والعظمى. في مهنتنا ماذا يميّزنا عن غيرنا؟ أيّ صدق وأيّ إخلاص وأيّ روح عدل يميّزنا عن غيرنا؟ بين ظهرانينا عشرات من العائلات الفقيرة التي يزورها يوميًّا الجوع والعري والمرض. من منّا يهتم بذلك؟ مع أنّ المسيح صوّر لنا الدينونة العامّة بهذه الأقوال: «كنت جائعًا فلم تطعموني، وعطشانًا فلم تسقوني، وعريانًا فلم تكسوني ومريضًا فلم تزوروني»، أتظنّون أنّ المسيحيّين الأوّلين كانوا يسمحون بأن يكون بينهم عائلة واحدة في عوَز وحاجة إلّا وهبّوا جميعًا للمساعدة والبذل؟ في الطائفة خلاف يشقّها منذ أكثر من عشرين سنة ولم نعرف حتّى الآن أن نجد له حلًّا. مع أنّ وصيّة المسيح الكبرى والأخيرة كانت لنا «أن أحبّوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا، بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي إذا كان لكم حبّ بعضًا لبعض» – في المجالس النيابيّة والمؤسّسات الرسميّة ومختلف الهيئات الاجتماعيّة والشركات وغيرها من يفكر أو يتجرّأ على قول: رأي المسيحيّة في هذه القضية كذا وكذا. أو روح المسيحيّة تقضي بأن يبتّ في هذه المشكلة بالطريقة كذا وكذا – أمام التيّارات الفكريّة والاجتماعيّة العميقة التي تجتاح مجتمعنا في هذه الأيّام وتعيد تكوينه على أسس جديدة من العدل الاجتماعيّ، ما هو موقفنا سوى بقائنا جالسين متفرّجين مستسلمين، كأنّنا نكرات وكأنّ ليس لمسيحيّتنا وجهة نظرها بل كلمة الفصل الحقّ في هذه التيارات، في ما فيها من خير لا تخلو منه، وفي ما فيها من شرّ، وكان الخير الذي فيها، كالتحسّس بالظلم وبالفاقة والرغبة الحارّة في التغلّب عليهما إذا ما نقيّناها وطهّرناها من البغض والكره والحقد وأقرنّاها باحترام الشخص وكرامته وحرّيّته، كأنّ هذا الشعور الذي يدفع كلّ إنسان خيّر إلى تحقيق العدل الاجتماعيّ بروح المحبّة ليس في الأساس شعورًا مسيحيًّا يتحسّس به أوّلًا المسيحيّون الحقيقيّون.
ومع كلّ هذا، نبقى مسيحيّين بل نعتزّ بمسيحيّتنا. هذه هي استقالتنا أيّها السادة: استقالة داخليّة عمليّة. نحن عمليًّا لا مسيحيّون ولا غير مسيحيّين. لا نقول نعم ولا نقول لا. لا نحن باردون ولا ساخنون. وبعد كلّ ذلك إذا قالوا عنّا أحيانًا إنّنا جبناء اسألكم بالله، أيحقّ لنا أن نحتج ونزعل؟…
إذًا ما العمل؟ العمل قليل من الرجولة، أيّها الإخوان. في المسيحيّة الرجولة الأصيلة والثقة والثبات والعطاء والاحترام ولا شيء في الدنيا يناقض المسيحيّة كما يناقضها روح السلبيّة والانكماش.
نحن نبقى مسيحيّين لأنّنا نعرف في داخلنا أنّ المسيحيّة لا يُتخلّى عنها، إذ هي أثمن ما لدينا في الحياة وفيها ينابيع الحياة. فلنأتِ إلى هذه الينابيع ونستثمر تدفّق النعم والبركات والقوى الفاعلة التي تجري في أعماقنا ونهدرها هدرًا. المسيحيّة وُجدت لا لتبقى كلامًا بل لكي تُعاش وتُعاش كلّيًّا. نحن مسيحيّون؟ فلنكن مسيحيّين صراحة وكلّيًّا ونهائيًّا، في البيت وفي المجتمع. لنصلِّ ونحترم عقائدنا وندرسها ولا ندع أحدًا منّا محتاجًا، ونحلّ خلافاتنا من دون تأخير ونتفهّم التيّارات الفكريّة المختلفة وننقّها ونوجّهها نحو المسيحيّة، ونتفاعل ونتجاوب مع الآخرين في انفتاح وانطلاق، مساهمين في بناء مجتمع أفضل وطابعين إيّاه بطابع المسيحيّة لتكون الطائفة كما يجب أن تكون: أي لا طائفة بل كنيسة، كنيسة المسيح.
سيداتي، سادتي، هذا ما تدعو إليه الحركة منذ ١٦ آذار ١٩٤٢، وما تحاول تحقيقه وهي لا تستطيع تحقيقه كاملًا إذا لم تشتركوا معنا جميعكم في تحقيقه وتتحسسّوه وتتبنّوه. أمّا نحن فماضون في الطريق ومتّكلون على نعمته تعالى، آمين.
المرجع: مجلّة النور، العدد السابع، تمّوز، ١٩٥٦.