التّهيئة للصّوم – الرّغبة: أحد زكّا

الأب ألكسندر شميمن Monday January 23, 2023 459
قبل بدء الصّيام الفعليّ بفترةٍ طويلة، تُعلن الكنيسة قدومَه وتدعونا للدّخول في فترة التّهيئة السّابقة له.
فمن الملامح المميّزة للتّقليد الطّقسيّ الأرثوذكسيّ أنّ كلّ عيد كبير أو موسم – الفصح، الميلاد، الصّوم إلخ- يُعلَن ويهيَّأ مسبقًا. لماذا؟ بسبب إدراك الكنيسة العميق للطّبيعة البشريّة. إنّها تعرف الضّعف في تركيزنا و”الدنيويّة” الرّهيبة لحياتنا، ولذا تدرك عدمَ قدرتنا على التغيير السّريع، على الانتقال فجأةً من حالةٍ روحيّة أو عقليّة إلى أخرى. ولذا قبل فترة من بدء الصّوم الفعليّ، تلفت الكنيسةُ انتباهنا لجدّيّته وتدعونا إلى التأمّل في معناه. قبل أن نمارس الصّوم تعطينا معناه. وتشمل هذه التّهيئة خمسة آحاد متتالية تسبق الصّوم، خُصّص كلٌّ منها- بسبب الإنجيل الّذي يُتلى فيه- لواحدٍ من مظاهر التّوبة الأساسيّة.

الإعلان الأوّل للصّوم تذيعه الكنيسة في الأحد الّذي نقرأ فيه قصّة زكّا (لوقا 19: 1-10). إنّها قصّة إنسان قصير القامة لم يستطع، بسبب ذلك، أن يرى يسوع، ولكنّه كان يرغب كثيرًا في رؤيته، حتّى أنّه تسلّق شجرة. ويسوع أجاب رغبته وذهب إلى بيته. وهكذا فموضوع الإعلان الأوّل هو الرّغبة. الإنسان يتبع رغباته. حتّى أنّه بمقدور المرء أن يقول إنّ الإنسان هو رغبة، وهذه الحقيقة النّفسيّة الأساسيّة حول الطّبيعة الإنسانيّة يُقرّها الإنجيل: “حيثما يكون كنزك، يقول الربّ، هناك يكون قلبك”. والرّغبة القويّة تغلب حدود الإنسان الطّبيعيّة. عندما يرغب المرء في أمرٍ ما بقوّةٍ، يعمل أشياء هو عادةً عاجزٌ عن فعلها. وإذا كان “قصيرًا” يتغلّب على نفسه ويتجاوزها. والسّؤال الوحيد إذًا هو هل نرغب في الأمور الصّحيحة وهل قوّة الرّغبة الّتي فينا تتّجه الوجهة الصّحيحة أو أنّ الإنسانَ، كما يقول الفيلسوف الوجوديّ والملحد جان بول سارتر، “رغبةٌ غير نافعة”؟
لقد رغب زكّا في “الأمر الصّحيح”. لقد أراد أن يرى يسوع ويقترب إليه. إنّه النّموذج الأوّل للتّوبة، إذ إنّ التّوبة تبدأ عندما يكتشف الإنسان الأساس العميق لكلّ رغبة: “الرّغبة في الله وبِرِّه، الرّغبة في الحياة الحقيقيّة.
كان زكّا “قصيرًا”، حقيرًا ،خاطئًا ومحدودًا، ولكنّ رغبته تغلّبت على كلّ هذا. جذبت انتباه السّيّد وجلبته إلى بيت زكّا. هذا هو الإعلان الأوّل، الدّعوة الأولى: رغبتنا الحقيقيّة والعميقة أن نقرَّ بهذا الجوع والعطش للمطلق الّذي فينا، عرفناه أو لم نعرفه. هذا المطلق الّذي إذ ننحرف عنه ونُبعد رغبتنا عنه، نصبح بالواقع “رغبة غير نافعة”. ولكن إن كنّا نرغب بعمقٍ وبقوّة، فالربّ يستجيب لرغبتنا.
0 Shares
0 Shares
Tweet
Share