القدّيس البار بيصاريون (+ القرن الخامس الميلاديّ)

mjoa Tuesday February 20, 2024 206

all saintsوُلد من أبوَين مسيحيّين، وقد أحبّ الحياة الملائكيّة منذ صباه فشعر بتغرّبه عن العالم، وبقيَ هذا الشعور ملازمًا له كلّ أيام غربته. انطلق أوّلًا إلى الأنبا أنطونيوس الكبير حيث مكث زمانًا تحت تدبيره، ثمّ جاء إلى القديس مقاريوس يتتلمَذ على يديه، وأخيرًا هام في البرّية كطائرٍ غريبٍ لا يملك شيئًا ولا يستقرّ في موضع، منتظرًا راحته الأبديّة. روى تلاميذه عنه أنّ حياته كانت كأحد طيور السماء أو حيوان البرّية، يقضي حياته بلا اضطراب أو هّم. لم يكن يشغله اهتمام بسَكنٍ يقطنه، ولا أمكن لشهوة أن تسيطر على نفسه. لم ينشغل بطعام ولا بناء مساكن ولا حتى بتداول كتب، إنّما كان بالكلّية حرًّا من كل آلام الجسد، يقتات بالرّجاء في الأمور العتيدة، محاطًا بقوّة الإيمان. كان يعيش بصبرٍ كسجينٍ يقُاد إلى أيّ موضع، محتملًا البرد والعري على الدوام، ومستدفئًا بنور الشمس، عائشًا بدون سقف، متجوّلًا في البراري كالكواكب. كثيرًا ما كان يُسَّر بالتجوّل في البرّية كما في بحر. وإذا حدث أن جاء إلى موضع يعيش فيه رهبان حياة الشركة، يجلس خارج الأبواب يبكي وينوح كمن انكسرت به السفينة وألقته على الشاطئ. فإن خرج إليه أحد الإخوة ووجده جالسًا كأفقر متسوّلٍ في العالم كان يقترب منه ويقول له بشفقة: “لماذا تبكي يا إنسان؟ إن كنت في عوز إلى شيء فإنّنا قدر المستطاع نقدّمه لك، فقط أدخل واشترك في مائدتنا وتعزّى”. عندئذ يجيب: “لا أستطيع العيش تحت سقف مادمت لا أجد غنى بيتي (يقصد به الفردوس المفقود)”، ليضيف أنّه قد فقد غنى كثيرًا بطرق متنوّعة. “لأنّي سقطت بين لصوص (يقصد بهم الشياطين)، وانكسرت بي السفينة، فسقطت من شرفي وصرت مهانًا بعد أن كنت ممجَّدًا”. إذ يتأثّر الأخ بهذه الكلمات يعود إليه حاملًا كسرة خبز، ويعطيه إيّاها، قائلًا: “خذ هذه يا أبي، لعلّ الله يردّ لك الباقي كما قلت: البيت والكرامة والغنى الذي تحدّثت عنه”، أما هو فكان يحزن بالأكثر، ويتنهّد في أعماقه، قائلًا: “لا أستطيع أن أقول إن كنت سأجد ما قد فقدته وما أبحث عنه، لكنني سأبقى في حزن أكثر كلّ يوم محتمِلًا خطر الموت، ولا أجد راحة لمصائبي العظمى. فإنّه يليق بي أن أبقى متجوّلًا على الدوام حتّى أتمّم الطريق”.
ببساطته العجيبة، كان يدعو إلى الحكمة ليصير المؤمن كالشاروب والساروف مملوءً أعيُنًا، ففي لحظات رحيله كانت وصيّته الوداعية: “يليق بالرّاهب أن يكون كالشاروب والساروف، كلّه أعين”.
قال أبا دولاس (شاول) تلميذ أبا بيصاريون: “كنّا نسير ذات يوم على شاطئ بحيرة، فعطشت وقلت للأبا بيصاريون: “أنا عطشان جدًّا يا أبي”. فلمّا صلّى قال لي “اشرب من ماء البحيرة”. فصار ماء البحيرة عذبًا فشربت. ثمّ جعلت بعض الماء في وعائي الجلديّ خشية العطش بعد حين. فما رآني الشيخ أفعل هذا، قال لي: “لماذا ملأت وعاءك ماءً؟” فقلت لي: “إغفر لي يا أبتي، لأنّي فعلت هذا خوفًا من الظمأ بعد حين”. قال الشيخ: “الله هنا، الله في كلّ مكان نسكه”!

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share