ثمّة مَن يعتقد أن التقليد الكنسي الشريف، وبتعبير آخر التراث الكنسي، يتناقله المؤمنون جيلاً إثر جيل من دون إعمال العقل فيه والاجتهاد وفق المتغيرات الاجتماعية والثقافية، ومن دون أخذ السياق التاريخي في الاعتبار.
التقليد ليس قبول ما أنتجه الفكر الكنسي عبر العصور فحسب، بل هو أيضاً، كونه تقليداً حيّاً، تأوين لهذا الفكر بما يتوافق مع الظروف، وهو خاضع للتفسير والتأويل والإضافة والحذف. لذلك، وجب التمييز ما بين الجوهري وغير المتغيّر فيه، من جهة، وغير الجوهري والمتغيّر فيه، من جهة أخرى. فعدم التمييز ما بينهما قد يؤدّي إلى جمود قاتل وحروفية تقضي على روح الإيمان الحق.
الثابت الوحيد في التقليد هما الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، والعقيدة كما أقرّتها المجامع المسكونية. أما القوانين والطقوس والفنون فهي، نظريّاً، قابلة للتعديل، ولا يعني ما نقوله إننا بالضرورة ندعو اليوم إلى تعديلها. فإذا أخذنا، على سبيل المثال، مسألة اختيار أساقفة من بين الكهنة المتزوجين، لوجدنا أن الكنيسة لم تكن ترفض حتى القرن السابع الميلادي سيامة أساقفة متزوجين. ولا مانع، نظرياً، من العودة إلى هذا التقليد مجدّداً، إذا ارتأت الكنيسة ضرورة إحياء ما كان سائداً قديماً.
التقليد ليس كلّه ثابتاً، وتمّت الإضافة اليه عبر الحقب المتتالية من تاريخ الكنيسة. فلو كان ثابتاً لكنّا اكتفينا بما أنتجه الجيل الأوّل من المسيحية الناشئة، أي عصر الرسل. وبما أن التقليد لم يقفل في زمن معيّن، فذلك يعني أنه قابل لاستيعاب ما هو صالح في كل زمان ومكان، ما دامت الكنيسة تقبله وتتبنّاه. وهذا ما حدث في ظروف عدة من تاريخها.
تؤمن الكنيسة بأن يسوع المسيح الحي هو الذي يقود كنيسته في التاريخ. وتؤمن بأنه حاضر في جسده، الذي هو الكنيسة، وفاعل فيه. وهذه الحقيقة الإيمانية تنطبق على كل زمان ومكان. فهناك تقليد يرتقي إلى الرسل يتمّ تناقله من جيل إلى جيل، وهناك حضور حقيقي للربّ يرافق الكنيسة في مسيرتها التاريخية ويجعلها لا تهاب من أن تواكب المتغيرات بما يتلاءم مع أسس الإيمان الجوهرية.
كتب القديس إيريناوس أسقف ليون (+202): “إن هذا الإيمان الذي يُسلّم في الكنيسة، إيّاه نحفظ. وهذا الإيمان، الذي يأتي من روح الله، يشبه كنزاً في وعاء ثمين لم يزل يجدّد نفسه، ويجعل تالياً أن يتجدّد الوعاء الذي يحمله على نحو مماثل… فحيث هي الكنيسة، هنالك روح الله أيضاً، وحيث هو روح الله، فهناك الكنيسة وكلّ نعمة. والروح هو الحقيقة”. من هنا، يتوجّب على الكنيسة أن تتجدّد دائماً من دون تردّد أو خوف بذريعة الحرص على التقليد، ما دام الكنز فيها.
ليس التقليد جامداً، بل هو حيّ، لأنّ المسيح حيّ في كنيسته. ليس التقليد جامداً، لأنّه مقاد من الروح القدس. فخومياكوف (+1860)، وهو أحد اللاهوتيّين الروس الأرثوذكس المجدّدين، اعتبر أن الشعب الأرثوذكسي نفسه يحمل الروح القدس، الذي هو مبدأ التقليد. فالتقليد ليس مجرّد عملية نقل للقديم، بل هو تواصل حيّ يعاش في شركة الكنيسة فقط. وتالياً لا يمكن أن يكون التقليد إلاّ عمل الروح القدس الذي يقود الكنيسة في ملء الحقيقة. فنعم للاجتهاد.