ثقافة جديدة بدأت تحتلّ فضاءنا الإيمانيّ هي ثقافة “الفتاوى”. هي ثقافة دخيلة لم يعرفها تراثنا الحيّ، ولم تكن يومًا فصلاً من فصول تعليمنا الكنسيّ. بيد أنّ تراثنا أدرك أنّ العلاقة الروحيّة القائمة بين الأب المرشد والابن المريد، هي العلاقة السويّة البديلة من تعميم فتاوى قد تفيد أحدهم، ولكنّها، في الآن عينه، قد تضرّ بآخرين. الفتوى النافعة هي الفتوى الشخصيّة لا العامّة. تبدأ المشكلة، إذًا، من عدم الفصل بين المجالين العامّ والخاصّ.
عندما سئل البطريرك أثيناغوراس عن رأيه بالرسالة البابويّة التي أصدرها البابا بولس السادس، في شأن تحديد النسل ووسائل منع الحمل، أجاب سائلَه أوليفييه كليمان، اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ الكبير، بقوله إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة لا تدخل مع المتزوّجَين إلى مخدعهما. وأضاف أثيناغوراس قائلاً إنّ الإرشاد السليم يتمّ عبر أب روحيّ، تختاره العائلة بملء حرّيّتها، لكي يقودها في طريق النعمة والخلاص.
نلمس في جواب أثيناغوراس، الذي يستند إلى التراث العريق للأرثوذكسيّة الشرقيّة، رفضًا مهذّبًا لإصدار الفاتيكان تعميمًا لفتوى يليق بها في الأصل التخصيص. فالأب الروحيّ يتعامل مع كلّ حالة من الحالات معاملةَ الطبيب للمرضى. وكما أنّه لا يجوز وصف الدواء ذاته لكلّ المرضى، وإن أصيبوا بالداء ذاته، كذلك لا يجوز تقديم الجواب ذاته للمؤمنين، وإن ارتكبوا المعاصي ذاتها.
هذه الفتاوى المسيحيّة، التي انتشرت مؤخّرًا في بعض الكتب التي صدرت هنا وثمّة، بعضها يخلو من التمييز ما بين الخطيئة والسلوك الخطأ، وشتّان ما بين الاثنين. ثمّ إنّه يخلط ما بين الخطايا، فيسمّي إحدى الخطايا بغير اسمها كما، على سبيل المثال، في حالة الجنس قبل الزواج حيث ينبغي التمييز ما بين الخطيئة التي يرتكبها عازبان خارج إطار الزواج من جهة، وخطيئة الزنى التي يكون أحد طرفيها متزوّجًا. كلاهما تعتبرهما الكنيسة خطيئة، ولكنّ الزنى يختصّ بالمتزوّجين حصرًا.
وثمّة كثير من الفتاوى ينصّب فيها كاتبها نفسه ديّانًا على الناس وعلى سلوكهم. فإذا كان التعليم هدفه التوبة، فلماذا هذا النَّفَس المـَدين؟ هل هذا يبني القارئ أم يثبط من عزيمته؟ اللافت أنّنا، في الأدب النسكيّ الصارم، لا نجد هذه القساوة تجاه الخطأة. الرحمة حاضرة عندهم، إذ إنّ هدف هذا الأدب إرشاد الناس إلى ما هو إيجابيّ. خلاص المؤمنين هو الهدف لا تقريعهم وتيئيسهم من رحمة اللَّه. وهل كان أحد الآباء الروحيّين الكبار أن يقدّم إجابة عامّة من دون معرفته بالسائل؟
ثمّ تتغاضى هذه الفتاوى عن الأخذ في الاعتبار السياقات الراهنة، فتأتي إجاباتها من خارج المكان والزمان. فاللجوء إلى إجابات جاهزة من العصور السحيقة، لا تنفع ابن زماننا، يكون بلا جدوى للسائل. فما كان بعضه يصحّ منذ حقب عديدة، ليس بالضرورة يصحّ في عصرنا. وما يصحّ في عصرنا، ربّما لا يصحّ للأجيال الآتية. وما يصحّ للقاطن في قارّة معيّنة، ربّما لا يصحّ للقاطن في قارّة أخرى. وما يصحّ للريفيّ، ربّما لا يصحّ للمدينيّ، وبالعكس…
كما أنّ هذه الفتاوى لا تقيم اعتبارًا للتنوّع والاختلاف ضمن التعليم الأرثوذكسيّ ذاته. فليست كلّ المسائل متّفَق عليها، وكلّها مقبولة ضمن الخطّ الإيمانيّ عينه. فالكلام على رقاد السيّدة مريم والدة الإله، على سبيل المثال، ليس فيه عقيدة ناجزة ملزمة للجميع، فيأتيك مَن يتبنّى رأيًا واحدًا من الآراء المتنوّعة المقبولة في التعليم المستقيم، ويفرضها تعليمًا إلزاميًّا. وهكذا في القضايا السلوكيّة التي تنبغي دراستها وفق سياقاتها.
المسيحيّة ليست شريعةً تقول لنا الحلال والحرام. المسيحيّة ليست كتابًا منزّلاً من السماء يتضمّن أجوبة عن كلّ المسائل من حليب البعوضة إلى الصواريخ النوويّة. المسيحيّة ليست سوى وصيّة واحدة: “أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم”. لذلك تتنوّع المواهب والخبرات التي تقود الناس إلى معرفة اللَّه والعيش بحضرته. لذلك، أبعدونا، حماكم اللَّه، عن التشبّه بنواقص الآخرين، وأعطونا كلمة حياة تقودنا مدى العمر.
مجلة النور، العدد الثاني 2011، ص 58-59