«نحن، مسيحيّين ومسلمين، متّفقون على أمرين هامّين وهما أنّ الله إله متكلّم،
أمّا الأمر الثاني، الذي يتفرّع عن الأوّل، فهو أنّ كلام الله إمّا أن يكون كتابًا أو أن يكون جسدًا».
البروفسور محمود أيّوب
شهد تاريخ المسيحيّة العربيّة العديد من اللاهوتييّن الذين كتبوا أعمالهم باللغة العربيّة. وقد أخذ هؤلاء الكتّاب في الاعتبار السياق العربيّ ووجود الإسلام، لذلك لم يغفلوا أهمّـيّة مخاطبة غير المسيحيّين بلغة يفهمونها، لغة غير بعيدة عن تعابيرهم وثقافتهم. فساهموا كلّهم في خلق لاهوت عربيّ ذي نكهة مميّزة، يتمازج فيها الإنجيل والفلسفة اليونانيّة واللغة القرآنيّة.
احتلّ موضوع التجسّد، في القرون الأولى للإسلام، حيّزًا كبيرًا في كتابات المؤلّفين العرب المسيحيّين، وبخاصّة في جدالهم مع المسلمين. وما زال هذا الموضوع يحتلّ إلى اليوم موقع الصدارة في المواضيع التي تثير الجدل بين المسيحيّين والمسلمين. بالإضافة إلى التجسُّد، دافع الكتّاب المسيحيّون العرب عن الصليب والفداء والثالوث، مؤكّدين وحدانيّة إيمانهم بالله في وجه اتّهامهم بالشرك.
أول ما يلفت انتباهنا عند الكتّاب العرب إنّما هو موضوع “جود الله”. لقد انطلق هؤلاء من الآيات الإنجيليّة التي تتحدّث عن محبّة الله للعالم التي جعلته يجود بابنه الوحيد لخلاص العالم، وبخاصّة الآية الإنجيلية الشريفة: “فإنّ الله أحبّ العالم حتّى إنّه جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة” (يوحنّا 3، 16).
وفي هذا يورد الفيلسوف أبي زكريّا يحيى بن عدي1 سببين، الأوّل من جهة الخالق والثاني من جهة المخلوق. فمن جهة الخالق يقول: “والدليل على وجوب الإتّحاد أنّ البارئ تعالى هو أفضل الجائدين. وأفضل الجائدين هو الجائد بأفضل الذوات. وأفضل الذوات ذات البارئ. فلزم جودُ البارئ بذاته علينا، وهذا كان باتّصاله بنا (…) وإذا كان اتّصاله بنا ممكنًّا، وكان لنا فيه غاية الشرف وله فيه كمال الجود، فلا يمنعه، إلّا العجز أو البخل. وهما من صفات النقص، فهو يتعالى عنهما. فيجب اتّصاله بنا”2. أمّا من جهة المخلوق فيقول: “أنّا لـمّا قصّرنا عن بلوغ كمالنا الإنسانيّ وقصّرت الأنبياء عن البلوغ بالأقلّين إلى مبادئ الكمال المذكور، تأنّس الإله، حتّى بلغ بالأكثرين إلى غاية الكمال الإنسانيّ والوجود”3.
ولكنّ هذا الجود الإلهيّ لا يقابله الإنسان إلّا بالبخل الذي يقول عنه يحيى إنّه “من صفات النقص” تعالى الله عنه. فيرى مثلًا عمّار البصري4 أنّ رفض الإنسان لتجسّد المسيح لأكبر دليل على بخل الإنسان مقابل جود الله، فيقول متسائلًا: “لماذا يريد خالقك لك أيها الإنسان الشرف والعلوّ وأنت تريد لنفسك السفالة والدناءة؟ ولمَ تبخل له بأن يبلغ بك غاية جوده وكرامته، وذلك لا ينقص من ملكه وسلطانه كما لم ينقصه ما قدّم لك من كرامته، كأنّك تريد أن تساويه بنفسك في البخل؟5. وهو نفسه يقول في التجسّد “إن ظهور الله للناس في بشر منهم أشبه بفضله وجوده وكرمه وأشدّ لتصحيح ثباته ووجوده عندهم وأبين لإكرامه إيّاهم وتشريفه لهم في ظهوره في أشباه بشر وصور أنس وبيت حجارة وتابوت خشب وشجرة حقيرة وسحاب وغير ذلك6“7.
أمّا بولس أسقف صيدا8 فيقول: “ولأنه (أيّ الله) جوّاد، وجب أن يجود بأجلّ الموجودات. وليس في الموجودات أجود من كلمته، يعني نطقه. ولذلك وجب أن يجود بكلمته حتّى يكون أجود الأجواد، وقد جاد بأجود الموجودات. فعلى هذا وجب أن يتّخذ ذاتًا محسوسة يظهر منها قدرته وجوده. ولّما لم يكن في المخلوقات منه أشرف من الإنسان، اتّخذ الطبيعة البشريّة من السيّدة مريم المطهّرة، المصطفاة على نساء العالمين”9.
ويعتبر عمّار البصريّ أنّ التجسد ثمرة جود الله وكرمه وصلاحه وجبروته، وهو تشريف للإنسان على كلّ الخلائق، فيقول: “إنّ الحكيم عزّ جلاله متعالٍ عن أن يفعل شيئًا عبثًا لغير معنى. كذلك لم يكن تجسّده وتأحيده عبثًا بلا معنى، بل جوده وكرمه وصلاحه وجبروته التي دعته إلى أن أبدع وأنشأ خلقه، هي التي دعته أخيرًا إلى انتقام نعمته واستكمال إحسانه بتجسّده بشريًا من خلقه. وذلك ليوجب للبشريّ بتجسّده إيّاه حظَّ بنوّته وسنا ربوبيّته وليعمّ الخليقة كلّها شرفُ ما أناله الشخصَ الواحد الأنسيّ المستخصّ من جميعها”10. وهذا معناه أنّ ابتداء الجود هو الخلق وإتمامه هو التجسّد.
أمّا بولس البوشيّ11 فيضيف أنّ ابن الله تجسّد ليس بحاجة منه إلى التجسّد، بل تفضّلًا وحبًّا بخلاص الإنسان: “الله جوّاد متفضّل لم يزل في جوهريّته كما يليق بصلاحه. بل أظهر التفضّل بالفعل، لـمّا خلق البريّة. ليس لحاجة منه إليها، بل تفضّلًا منه عليها. ومن العدم إلى الوجود أحضرها، وهيّأ لها ما تحتاج إليه، لكرمه وجوده، ليُعرف أنّه متفضّل منّان وهكذا تعاهد البريّة بالخلاص، ليس لحاجة منه إلى التجسّد، بل تفضّلًا منه عليها”12. ويستعيد بولس موضوع التجسّد من الزاوية ذاتها التي استعملها سابقوه، أي جود الله. إلّا أنّه يضيف قائلًا: “اشتدّ الداء وكثر السقم وتزايدت العلّة، والطبيب الحقيقيّ هو الله، ذلك أن “الصنعة إذا فسدت، لا يقدر أن يصلحها إلّا صانعها. وهكذا الخليقة، لـمّا هلكت احتاجت إلى تعاهد الخالق”13.
أمّا ثمار التجسّد فهي الحياة الأبديّة التي لم نصل إليها بلاهوت الكلمة بل بتجسّده واتّخاذه طبيعتنا، فبولس البوشيّ يقول: “ولم يوصلها إلينا بلاهوته، لأنّا لسنا من ذلك الجوهر الخالق الأزليّ، ولا نلائمه بشيء. فشاء، بتحنّنه، أن يتجسّد، واتّحد بالجسد مع لاهوته. وأوصل الحياة مؤبّدة إلى ذلك الجسد، باتحاده به. ثم أوصلها إلينا، كافّة المؤمنين به، بالنسبة لذلك الجسد المأخوذ منّا”14. وهو نفسه يقول: “إن لم يحلّ في الإنسان ما هو أشرف منه وهو الروح القدس، والسراير المحيّية التي للإله الكلمة، الذي هو مالكها وخالقها، فليس له نصيب ولا ميراث في تلك الملكوت المؤبّدة”15.
والاتّحاد بالمسيح يتمّ بسرّ الشكر الذي هو ثمر التجسّد أيضًا، فلو لم يصر ابن الله إنسانًا لما تسنّى لنا تناول جسده وتاليًا الاتّحاد به. وهذا الأمر ليس سوى تفضّل منه. يقول البوشيّ: “ثمّ بعد ذلك، زادنا تفضّلًا عمّا كان آدم فيه قبل المخالفة، فأعطانا جسده المحيي. وقال: “إن لم تأكلوا جسد ابن البشر، وتشربوا دمه، ليس لكم حياة أبديّة فيكم (يوحنّا 6، 53). وقوله “فيكم” يعني أنّها تصير في جوهركم؛ لا تكون خارجة عنكم، ولا غريبة منكم”16. وهو يعتبر بأنّ الخبز المقدّس قد صار حقًّا جسد المسيح “لأنّ لاهوته المتّحد بجسده هو قد اتّحد بهذا الخبز المقدّس، وصيّره جسده، بحقّ لا بشبه”17.
ولا تخلو كتابات المسيحيّين العرب من جدالات مع المسلمين، وهذا يفترض معرفة جيّدة بالإسلام وكتّاب المسلمين. فعمّار ينكر مثلّا مقولة القرآن في شأن قوله لها ﴿ ما اتّخذ صاحبة ولا ولدًا ﴾ (الجنّ، 3)، معتبرًا أنّ هذه الآية لا تعني المسيحييّن لا من بعيد ولا من قريب. وهو يقول ردًّا على ذلك: “إنّا نبرّ إلى الله من أن نقول إنّه اتّخذ صاحبة، وإن بعضنا ليرفّع نفسه عن ذلك فكيف ينسبه إلى خالقه، جلّ الله تعالى عن ذلك علوًّا كثيرًا”18. ويشدّد في السياق نفسه على أن “الابن لم يزل بغير زمان ولا ابتداء أوان”19. ولا يعتبر عمّار البصريّ الأبوّة نقصًا أو عيبًا بل تشريفًا للإنسان فيقول ردًّا على الآية القرآنيّة ﴿ قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ﴾ (الإخلاص) إنّ الإنسان أعظم المخلوقات وأشرفها وهو يلد ويولد، بينما أخسّ المخلوقات كالدود والبقّ فلا تلد ولا تولد. ويستنتج من هذا: “إنّ الشرف والجلالة فيما يولد ووَلد، وإنّ الخساسة والنقص فيما لم يلد ولم يولد، وأيقنّا أنّ شرفنا ورفعتنا بوقوع اسم الأبوّة والبنوّة علينا”20.
التجسّد هو أكبر دليل على كرم الله وجوده تجاه البشر. وثماره إمكانيّة المشاركة في المجد الذي ناله جسد المسيح الممجّد والقائم من بين الأموات في صعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب. ولولا التجسّد لَما كان بمقدور الإنسان أن يتّحد منذ اليوم بالمسيح من خلال مشاركته في سرّ الشكر. لقد أطلق الكتّاب العرب على الله صفات عديدة تصبّ كلّها في معنى واحد هو الجود، فقالوا عنه إنّه الجوّاد، الكريم، المتفضّل، المنّان. وبمعنى آخر هو الودود المحبّ، فالجود ثمرة المحبّة.
—————
- من كبار فلاسفة القرن العاشر. ولد في مدينة تكريت (893)، تتلمذ على يد أبي نصر الفارابي، أستاذ مسكوية وأبي حيّان التوحيديّ. وهو ينتمي إلى الكنيسة السريانيّة ، وتوفّي العام 974.
- الأب سمير خليل، “التراث العربيّ المسيحيّ القديم والإسلام”، في المسيحيّة والإسلام مرايا متقابلة، منشورات مركز الدراسات المسيحيّة الإسلاميّة، جامعة البلمند، 1996، ص 84-85.
- “التراث…”، المرجع المذكور، ص 86.
- كاتب مسيحيّ مجهول الهويّة عاش في القرن التاسع في مدينة البصرة.
- عمّار، 75 انظر قائمة المراجع في نهاية المقالة، الرقم يدلّ على الصفحة.
- الأماكن المذكورة في النصّ تشير إلى الأماكن التي ظهر فيها الله في العهد القديم.
- عمّار، 7.
- عاش في القرن الثاني عشر، ولد في أنطاكية وصار راهبًا ثمّ أسقف مدينة صيدا الأرثوذكسيّ.
- الصيداوي، 82.
- عمّار، 215.
- ولد في مدينة بوش (مصر الوسطى) وصار راهبًا في شبابه، ثم انتخب أسقفًا على مصر العام 1240.
- البوشيّ، 206-207.
- البوشيّ، 189-190.
- البوشيّ، 215.
- البوشيّ، 225.
- البوشيّ، 221-222.
- البوشيّ، 222-223.
- عمّار، 57.
- عمّار، 57.
- عمّار، 61.
المراجع:
- عمّار البصري، كتاب البرهان وكتاب المسائل والأجوبة، تحقيق وتقديم الأب ميشال الحايك، دار المشرق، بيروت، 1977.
- بولس البوشيّ، مقالة في التثليث والتجسّد وصحّة المسيحيّة، تحقيق ودراسة الأب سمير خليل، سلسلة التراث العربيّ المسيحيّ، 1983.
- يحي بن عديّ، مقالة في التوحيد، تحقيق وتقديم الأب سمير خليل، سلسلة التراث العربيّ المسيحيّ، 1980.
- Paul Khoury, PAUL D’ANTIOCHE évêque melkite de Sidon (XIIe S), Imprimerie Catholique, Beyrouth, 1964.
مجلة النور، العدد الثامن 1997، ص 404-407