تعيّد الكنيسة المقدسة في 29 حزيران للقدّيسَين الرّسولَين بطرس و بولس. و يليه في اليوم الثاني ( 30 حزيران) عيدٌ جامع للرّسل…
وبنعمة الروح القدس الذي حلّ عليهم يوم العنصرة على شكل ألسنة كأنّها من نار (أعمال 12:3) تحولَّ الرّسلُ من رجالٍ بسطاء، فقراء، صيّادين ومزارعين… إلى مبشّرين شجعان بالمسيح، يكلّمون كلّ إنسان بلغته (أعمال 2:6) بعدما تسلّموا الإيمان مرّة واحدة (يهوذا 3). بهم انطلقت الكنيسة كنيسةً مجيدة لا دنس فيها ولا غضن، فكانوا يواظبون على التعليم والشّركة وكسر الخبز والصلوات (أعمال 2:42)، إضافةً إلى أنّهم كانوا جماعةً بقلبٍ واحد وروح واحد، لا يدّعي أحدٌ منهم مُلكَ ما يخصّه بل كانوا يتشاركون في كلّ شيء بينهم (أعمال 4: 32).
كنيسةُ أطهارٍ بكلّ معنى الكلمة: لا مكان فيها للكاذب، ومن يكذب على الرّسل يصبح بمثابة الكاذب على الرّوح القدس، مصيره الموت، وهذا ما حصل مع حنانيا (أعمال 5:5) وامرأته (أعمال 5:10).
والرّوح أعطى الرّسل أن يؤدّوا الشهادة بقيامة الرّب يسوع مؤيَّدةً بقدرة عظيمة (أعمال 4:33). وكانت تجري على أيديهم آياتٌ عظيمة، لدرجة أنّ الناس كانوا يحملون مرضاهم إلى الشوارع حتّى اذا وقع ظِلُّ بطرس على أحدٍ منهم يُشفى (أعمال 5:15) ، وكان الله يُجري على يد بولس معجزات عجيبة حتّى صار الناس يأخذون إلى مرضاهم ما لامسَ جسده من مناديل و مآزر فيشفون (أعمال 11:19). فالرّسل، الذين اختارهم الرب يسوع وأرسل عليهم الرّوح القدس، هم أساسٌ في الكنيسة، فكلّ منا يعلن إيمانه بكنيسة رسوليّة، والكهنوت الأسراريّ يستمدّ شرعيّته من التسلسل الرسوليّ عبر التاريخ، وأسفار العهد الجديد اعتُبرت قانونيّة انطلاقاً من أصلها الرسوليّ…
ولكن، وبرغم أنّ الكنيسة في زمن الرّسل شكّلت قدوة في كلّ شيء بدءًا من الصلاة وإقامة الأسرار إلى الحياة المشتركة ومحبة الفقراء وإلى الشهادة بالكلمة والدم مع استفانوس، أولّ الشهداء، ( أعمال 60:7) ومن بعده الشهيد يعقوب أخي يوحنا (أعمال 12:2) وإلى حيث كان المؤمنون يقبلون الإضطهاد والذلّ فرحين لأنّ الله وجدهم أهلاً لقبول الإهانة من أجل يسوع (أعمال 41:5) ووصولاً إلى أنّ هذه الكنيسة أرعاها الرسل مباشرةً والذين كان عندهم وحدهم جرأة القول: “لقد رأى الرّوح القدس ونحن” !! (أعمال15:28)، يبقى مُلفِتًا أنَّ هذه الكنيسة، رغم كلّ ما تقدّم، لم تمارس الإسقاط، ولم تنظر إلى نفسها كجماعة من المؤلَّهين، المترفّعين عن مشاكل الدنيا، وبالتالي لم تمارس هذه الكنيسة الإنكار لواقع الضعف البشري سواءً عند الرعاة أو عند المؤمنين. فالمؤمنون يحافظون على النعمة وينمون فيها بقدر ما يجاهدون بالحبّ، وتالياً فالنعمة ليست إمتيازاً ولا تُنزِّه حاملها أو تُعصِمُه. فمكانة بطرس الكبيرة في الكنيسة وكونه، وبنظر بولس، مِن أعمِدَتها (غلاطية 9:2) لم يمنعا بولس من لومه وجهًا لوجه “لأنّه كانَ مَلومًا” (غلاطية 11:2).
والتباين بين بطرس وبولس سبَقه كذلك خلاف حادّ بين بولس و برنابا اللّذين وقع بينهما نزاع حتى افترقا (أعمال 39:15). كلّ ذلك لم ينتقص من قداسة أيّ منهم، فبرنابا الرّسول تعيّد له الكنيسة في 11 حزيران ، وبطرس وبولس لهما مكانة كبرى في ضمير الكنيسة وقلبها حتى أنَّ أيقونة تجمعهما، فيها، وتُظهرهما متعانقَين، وهو عناق بَلغاه بالحبّ والخدمة والشهادة بالدم.
والكنيسة في عهد الرّسل واجهت المال وسطوَته، فتخلّت عنه وتسلّحت بالنعمة، وبالنعمة فقط، “لا فضّة عندي ولا ذهب، ولكن أعطيك ما عندي بإسم يسوع المسيح” (أعمال 6:3)، ونبذت سيمون الساحر الذي عرض المال مقابل منحه النعمة، “فقال له بطرس إلى جهنّم أنت ومالك لأنّك ظننتَ أنك بالمال تحصل على نعمة الله” (أعمال 20:18:8). وكذلك اعتبر يعقوب الرّسول أنّ المؤمنين بربّنا يسوع المسيح لا يحابون أحدًا، ومن فضَّل الغنيّ على الفقير وأجلَسه في مكان أفضل فقد حابى وجعل نفسه قاضياً قاسي القلب (يعقوب 2:1-27).
وكون الرّعاة قد اختارهم الروح القدس ليرعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه ( اعمال 20: 28) لم يمنع بولس الرّسول من التحذير أنّ من بين هؤلاء سيخرج ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعيّة، وسيقوم منهم من ينطق بالأكاذيب ليضّل التلاميذ كي يتبعوه هو لا المسيح (أعمال 20: 29- 30). فنرى أنّ الرّسل لم يتجاهلوا التحزّب الذي آثره البعض، بل حاربوه، لأنّ الرب هو الذي ينمّي، وما هم إلّا غارسون وسقاة (أكو 3: 5-6)
إنّ ما تقدّم يُظهر مقدار الحريّة بالمسيح التي تميّزت بها الكنيسة الأولى ولا سيّما الرّسل، حيث لا اعتبار لأحد ولا موقع ممتاز لأيٍّ كان. المكانة والإعتبار للكلمة، وللكلمة فقط، وعند بولس الرّسول، الحريّة في الرب لا تنازل عنها ولا مساومة عليها، فالربّ هو الروح، وحيث روح الرب تكون الحريّة ( 2 كو 17:3)، ومن تجسّس حريّتنا بالمسيح يستعبدنا (غلاطية 4:2)
ومن الرّسل تعلمنا أن نميّز بين تعليم الربّ وتعليمهم، فيقول بولس، أقول أنا لا الربّ ( أكو 12:7)، ومنهم أيضاً أدركنا قوّة المبادرة واقتحام العالم بالنعمة التي بها نتقدّس ونُقدّس . فالرّجل المؤمن يقدّس زوجته غير المؤمنة، والمرأة المؤمنة تقدّس زوجها غير المؤمن (أكو 14:7) فلا نجاسة بوجود النعمة.
ماذا عن الكنيسة اليوم؟
كنيستُنا الجامعة والمقدّسة والرّسولية مدعوّة اليوم إلى الاقتداء بكنيسة الرّسل للتحرّر من حالة الإسقاط التي تزداد ثِقلاً فيها، وتالياً للخروج من حالة الإنكار ومواجهة الواقع ومعالجته بحرية أبناء الله.
دون الإقتداء بالكنيسة الرّسوليّة والخروج من حالتَي الإسقاط والإنكار ستبقى سطوة المال والمحاباة والضعفات وسيصعب الخروج من التحزّب كما سيصعب الحدّ من التكفير الكيفيّ ورفض الآخر.
بنعمة الله ستخرج الكنيسة من هذه الحالة، لأنّ العالم يحتاج شهادَتها، ويحتاج أن تخاطبه وتنقل له الكلمة الخلاصيّة ولو عبر الإله المجهول (اعمال 17: 23-28)، فالربّ يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون ( أعمال 47:2).
ابراهيم رزق